السترات الصفر، تشتبك مع النيوليبرالية، وتهز أسس الجمهورية الفرنسية الخامسة!
في مدينة ميز الفرنسية الصغيرة، تقف إمرأة ستينية وراء طاولة لتسأل: من يريد إدارة الاجتماع العام لهذا المساء؟ من يرغب بتولي مفكرة تسجيل الملاحظات؟ هل لدينا أشخاص جدد يتقدمون للالتحاق بالمجموعة؟
كما في كل يوم، منذ أكثر من شهر، في تمام الساعة الخامسة مساء يجتمع في مكان ضيق حوالي 40 من السترات الصفر، يتخذون من كوخ زرعوه في الساحة الرئيسية للمدينة، مركزا لنشاطهم الذي أخذ يرتقي يوميا بآليات تنظيمه.إليزابيث؛ مصففة الشعر المتقاعدة، والتي تناقص راتبها التقاعدي بشكل كبير، تدير كوخ الاعتصام اليوم. وبالرغم من برودة الجو والرذاذ المتساقط، فإن النقاش بدا دافئاً وجدياً.
تضيف إليزابيث: لقد تلقينا اليوم 200 بريدا الكترونيا.. من يتكفل بالاجابة عليها؟ ثم تلتفت إلى صحفي ميداني، وتجيب مبتسمة: «الجميع هنا مترابطين، ونصوت برفع الأيدي، التقينا مع بعض مؤخراً، ولكننا الآن نعرف بعضنا جيداً، وأشعر بأنني قد صغرت عشرين عاماً.
لقد بدأ كل شيء هنا بإنشاء مجموعة على الفيسبوك للتحضير للدعوة الأولى للتظاهر، ثم خرجنا إلى الضوء، وفي غضون يومين أقمنا «كوخ التضامن»، وهو يأخذ شكل مقصورة صيد قديمة، وتم الافتتاح بمشاركة 250 شخصاً وعندما أرادت البلدية إزالته، «جمعنا 1500 توقيع من مواطنين يطالبون بإبقائه».
والآن هناك مقهى يوفر القهوة للمعتصمين، والمخبز يقدم منتجاته، كما تعهدت جمعية بتقديم الحساء الساخن يومياً. صورة تعكس طبيعة نشاط السترات الصفر، وعمق تجذرها.
تشعر فرنسا بالدهشة من انفجار حركة احتجاج عارمة، لم تشهدها البلاد منذ الستينات، ويقول بعض المحللين، بأن الأحداث التاريخية الكبرى تأتي بفعل تراكمات كبيرة، مع بعض التخطيط، ويتم تشبيه الحالة الفرنسية الحالية، بالثورة الفرنسية الكبرى في العام 1798، والتي أدت إلى انهيار الحكم الملكي وتبلور القومية الفرنسية على طريق بناء الجمهورية.
توطدت «الحركة» عندما استجاب مئات الآلاف إلى نداءات عمت وسائل التواصل الاجتماعي، لينزلوا يوم 17 نوفمبر، واحتشدوا في الشوارع والساحات في معظم المدن الفرنسية احتجاجاً على زيادات ضريبية وارتفاع أسعار المحروقات.
في اليوم الأول رصد الإعلام أكثر من ألف نقطة تجمهر، وإغلاق للطرق على كل المساحة الفرنسية، وقع خلالها قتيل وأكثر من 300 جريح، ثم توالت الاحتجاجات واتسعت أفقياً لتعم حتى الأقاليم الفرنسية خلف البحار.
حالة من السخط العام عمت فرنسا، أخذت عليها الحكومة والإعلام غياب قيادة موحدة لها، وحاولت تضخيم بعض مظاهر الفوضى والتعديات على الملكية العامة والخاصة، كما توقعت خفوتها سريعاً.
«الحركة» لم تخفت، ورغم بعض التنازلات التي أعلن الرئيس الفرنسي ماكرون، إلا أن الحكومة الفرنسية لا تزال تواجه صعوبة بالغة في إقناع «هؤلاء» الفرنسيين الذين يحشدون منذ حوالي أربعة أسابيع، للمطالبة بالمزيد من العدالة الاجتماعية والشراكة السياسية.
شكلت «الحركة» حتى الآن، حدثا مفصليا في التاريخ الفرنسي منذ العام 1905، والذي فصل بين الدولة والكنيسة، ويتظاهر الناس الآن، لفصل المال عن الدولة، وبعد أسابيع من القمع والتخويف، خرج الشعب إلى الميادين للسبت الخامس على التوالي، رغم الكلفة البشرية العالية التي دفعها في السبت السابق وأثبت بأنه شعب واع ومصمم.
ما يجري في فرنسا حاليا، ليس حدثاً عابراً، وإنما يمكن وصفه بثورة شعبية شاملة ومتدحرجة، ويجد كثير من المحللين صعوبة وضعها في إطار كلاسيكي اعتيادي. حراك سياسي أصيل متراكم ومتجذر في المجتمع الفرنسي كونه يعني قضية إجتماعية إقتصادية جماعية، وشعب يريد أن يعود ليكون سيد نفسه. هل ابتدأ وقت الشعب في فرنسا، والعالم يشاهد ويشهد ويتابع؟
«حركة» بدأت بمطالب اجتماعية لتتحول إلى حالة مجتمعية للمواطنين، أصبح هدفها قبل كل شيء؛ إعادة السلطة للأغلبية الشعبية، والتخلص من النظام الطفيلي وطغيان المال. حركة لا تتبع لأحد، وتشمل الشعب بتعدد شرائحه، وانحيازه للمصلحة العامة، في مواجهة المصالح الخاصة.
قوة الحركة تتأتى، من انتشارها الواسع وقدرتها على التعبئة ضد سياسات ماكرون النيوليبرالية القائمة على محاباة رأس المال وبيع القطاع العام وزيادة معاناة الطبقات الاجتماعية الأدنى، وتضم في صفوفها نسبة عالية من النساء ملح الثورة وعصبها.
لقد كشفت الحركة عن مدى تغلغل الفقر داخل المجتمع الفرنسي وتوسع الهوة بين الطبقات .. مساق احتجاجي يتطور بإيقاع ذاتي، بدأ برفض الضرائب الجديدة التي مست قطاع هام من المجتمع، قوبل الاحتجاج برد الرئيس، التضليلي التشكيكي، دفع «الحركة» للتصلب ورفع سقف مطالبها، وإعادة التذكير بضعف شرعية الرئيس الذي انتخب بحوالي 16% من أصوات الناخبين الفرنسيين.
إدامة الحركة وتجذرها، لفت النظر لما هو أبعد من التظاهر والاعتصام، والغوص لفهم التفاعل والحياة الاجتماعية الثرية التي تجري داخلها، والحوارات العميقة التي تشهدها مقراتها وحواجزها، والوقت الذي يقضونه معاً لتحضير برامجهم وأدارة حواراتهم وتعمبم مواقفهم.
وهكذا بعد أن فرضت مجموعة من العوامل وثقافة السوق، إضعاف الحياة الجماعية للمجتمع الفرنسي، وغلبت قيم الفردية والأنانية، تأتي الحركة لتضم في صفوفها أكاديميين وشبان وعمال ومتقاعدين وموظفين ومعطلين وسائقي شاحنات.. لتعيد الحيوية إلى النسيج الاجتماعي، وترفع من قيمة التضامن. وتقول «نحن لا نريد اعادة انتاج النظام الذي نقاتله».
هؤلاء الناس يبشرون بنظرية الدخول في عصر الشعوب، الشعب كموضوع تاريخي وصانع لهذا التاريخ.. حالة من الديموقراطية الاجتماعية المباشرة، تسمح بمناقشة موازنة الدولة وسياساتها الداخلية والخارجية، وشؤون الاتحاد الاوروبي، في الشارع وعلى الحواجز.
راهنت الحكومة على خفوت الحركة تدريجياً، واعتمدت استراتيجية تقوم على المماطلة ومحاولة تأليب المواطنين على السترات الصفر، ودفعت الاجهزة الأمنية في باريس والمدن الكبرى لافتعال صدامات عنيفة مع المحتجين، باستعمال الهراوات، والهجمات بقنابل الغاز والصوتية الممنوعة، في محاولة لاستفزاز المندفعين، ثم تضخيم صور أحداث الشغب والتكسير ومحاولة افتعال شرخ بين سكان العاصمة، و»ريفيين» مُكسرين يأتون من خارجها. جرمت الاحتجاجات، ووضعت الشعب في موقع الخارج على القانون، وافتعلت أجواء لحرب أهلية.
لم تنجح الحكومة في معركة الرأي العام، بل تكرست صورة لشرعيتين تتصارعان؛ شرعية نظام منتخب بصورة إشكالية، وشرعية مساق ثورة المواطنين المجتمعية تحت شعار؛ لا شرعية بدون عدالة اجتماعية.
رهان الحكومة على تراجع زخم الحركة فشل، بل أدى إلى نتائج عكسية بعد ان حققت استباينات الرأي تقدماً كبيرا في تأييد المواطنين للحركة، وتعمق الشرخ بين المجتمع والحكومة، فيما أعلنت قطاعات مجتمعية أخرى انضمامها للاحتجاج.
أُجبر ماكرون على الظهور مؤخرا؛ استهجن أعمال التكسير ومخالفة القانون، لم يبدي أي نوايا تضامنية، وتجاهل سقوط ثمانية قتلى ومئات الجرحى والممعتقلين، حاول تقديم اعتذار بصورة مواربة، ووعد بتوزيع بعض النقود، كان أهمها رفع الحد الأدنى للأجور بقيمة 100 يورو، ولا أجوبة للمطالب حول الديموقراطية التشاركية، كما تناسى مطلب وضع ضرائب على الثروات الكبيرة. الشرائح الأكثر معاناة، لم تكن مشمولة بكرم الرئيس، خاصة المعطلين عن العمل، والموظفين بدوام جزئي، والمتقاعدين وموظفي القطاع العام، علاوة على أن معظم الزيادات التي وعد بها الرئيس سيتم دفعها من جيوب الناس والمأمنين اجتماعيا، وليس عن طريق ارباب العمل واصحاب أو الفوائد البنكية.
أرضى ماكرون شرائح اجتماعية محددة، ولكن الحركة قالت: هذا لا يكفي، ونحن بحاجة لوضع موازنة تنطلق من حاجات المجتمع ومتطلبات الاستثمار والبيئة والتنمية والعدالة الاجتماعية. وسط تهويل الحكومة والأغلبية البرلمانية بأنه، حتى هذا القدر من التنازلات، سينعكس على الموازنة العامة سلبا، في حين رأت أكبر نقابة عمالية، وأطراف اليسار الراديكالي، بأن ماكرون لم يفهم بعد فحوى الغضب الشعبي، بينما أطلق نواب من اليسار (الحزب الشيوعي الفرنسي، وفرنسا غير الخاضعة ) آلية في الجمعية الوطنية لإسقاط الحكومة، دون احتمال نجاحها!
تقف أحزاب اليمين «الجمهوري» سلبية عاجزة، ويحاول اليمين العنصري المتطرف اختراق الحركة وتوظيفها، ولكنه لا يمتلك بين صوفها حواضن اجتماعية ذات تأثير كاف، بينما يدفع اليسار الراديكالي، كوادره وأنصاره للانخراط في «الحركة» من موقع الشراكة وتقديم الإسناد والمشورة، مع احترام خياراتها واتساعها وتطورها الموضوعي.
ما يحصل في فرنسا يعبر عن أزمة نموذج أوروبي يسود منذ عقود، نموذج نيوليبرالي متوحش على الطريقة الأمريكية، ونظام مأزوم أخلاقيا، ونهج أرهق الدولة وأضعف النقابات والأحزاب والحكومة، ينهك الاقتصاد ويعطل السيادة، ويرتكز على أغلبية برلمانية معزولة عن المجتمع وقواه.
أزمة ثقة بين المواطن والجمهورية الخامسة التي تعطي كل السلطات لرئيس، فرط بالهوية القومية، ويمثل عمليا رأس المال المالي والمصارف وشركات التأمين.
بعد أربعة أسابيع من الحركة تُطور السترات الصفر من أساليب فعلها وتنوع من أدواتها، وفي آخر خروج واسع لها في باريس لوحظ انخفاض في أعداد المتظاهرين، ولكن في المقابل جذرت من فعالياتها في المدن، وسط تزايد أعداد الملتحقين بها، وتواصلها مع المواطنين، وتكرسها كمؤسسة مجتمعية دائمة، وتقول «بأننا لسنا بحاجة للتفاوض مع أحد، وعليهم أن يأتوا ليستمعوا إلى مطالبنا في الشارع مباشرة.. «سلطة» أمر واقع، ديموقراطية شعبية، تعادل الأغلبية البرلمانية، وتطالب باستفتاءات بمبادرات المواطنين.
هي عودة إلى السياسة الأساسية.. ما يلزم للعيش، حيث تكمن قوتها في بساطتها، تتراكم، تختمر لسنوات طويلة، وفي لحظة ما، وفي ظرف موضوعي مناسب، تتحول إلى كتلة تاريخية حاسمة تحمل سمات الثورة وتنفجر على شكل معجزة.
يقول البعض بأنها ثورة ستغير العالم، ولكنها بالتأكيد قد بدأت بتغيرهم ،عندما يتضامن الواحد مع الآخرين من خلال النضال المتولد على الطريق في كل لحظة، دون قائد أوحد مُلهَم، وبدون تنظيم كبير ثقيل، أو كما قال الكاتب الساخر مارك توين: «إنهم لم يعلموا بأن ما فعلوه كان مستحيلاً، لذا فهم فعلوه»!.