الدولة المدنية.. وسؤال المراجعة أمام “الإخوان”
قد لا يكون مفاجئا ما أعلنه أمس، عبر “الغد” رئيس مجلس شورى جبهة العمل الإسلامي، عندما كشف عن تبلور نقاشات داخلية في الحركة الإسلامية عما سماه “تحفظا” على مفهوم الدولة المدنية، وإرجاء بحثه “مؤسسيا” باعتباره ليس أولوية بالمرحلة الحالية! حيث خلصت قيادات الجبهة والإخوان المسلمين إلى أن الدولة المدنية “ليست البديل للدولة ذات الاتجاه الإسلامي”.
التصريحات، التي لخصت نقاشات مغلقة طويلة، جاءت مقتضبة وشبه حازمة في طي صفحة الحديث عن تبني مفهوم الدولة المدنية بأدبيات “الإخوان”، وإغلاق الباب، أمام إمكانية الوصول لمقاربات توافقية مع باقي المكونات السياسية والحزبية، للشكل السياسي المنشود للدولة وفلسفة الحكم فيها. هذه النقاشات الداخلية للحركة الإسلامية والتي تمخضت عن “التحفظ”، جاءت بعد أن تقدم مفهوم الدولة المدنية خلال الأشهر القليلة الماضية ليتسيد مشهد الجدال والنقاش الوطني، سواء بالانتخابات الأخيرة، أو عبر الورقة النقاشية السادسة للملك، ولاحقا المداخلة المهمة و”المفاجئة” للقيادي في الحركة زكي بني ارشيد.
طبعا، جدل ونقاش الدولة المدنية، تحديدا في مقابل الدولة الدينية أو القائمة على مبررات وأسس دينية، وفي مقابل، أيضا، الدولة غير الديمقراطية والتي تغيب فيها سيادة القانون والحاكمية، ممتد منذ عقود، وأخذ دفعة قوية بتصدر المشهد العربي منذ هبوب رياح الربيع العربي.
لكن حرارة واستقطابات النقاشات حول هذا المفهوم تزايدت بالتوازي مع فشل أو تعثر، سمّها ما شئت، تجربة الإسلام السياسي ببعض دول الربيع، خاصة مصر، وانجراف حركات الإسلام السياسي في تجارب أخرى، خاصة سورية، إلى العمل المسلح والأيديولوجيات المنغلقة والاقصائية، حد التورط بالفعل المتطرف والإرهابي، والتماهي مع صراعات المحاور الإقليمية والدولية، بمواجهة انغلاق النظام السوري على مطالب الإصلاح الشعبية، ما أفقد موجة الحركة الشعبية الأولى قوتها واندفاعها، لتتحول سريعا لحرب أهلية بتداخلات إقليمية ودولية مدمرة لسورية.
تحفظ، وهو بالأحرى رفض، مفهوم الدولة المدنية من قبل الحركة الإسلامية، أو الوصول لمقاربات توافقية حوله مع باقي مكونات المجتمع، يؤكد أن إسلاميي الأردن مايزالون بعيدين عن إجراء مراجعات حقيقية لبرنامجهم ورؤاهم السياسية، رغم كل ما جرى من مياه، بل ودماء ودمار، في مرحلة الربيع العربي، وهي أزمة حقيقية، لا يعاني منها التيار الإسلامي وحده، بل تمتد لباقي التيارات السياسية والفكرية العربية، لكنها أكثر وضوحا وتأثيرا لدى الإسلاميين، باعتبارهم القوة السياسية والشعبية الأبرز والأكثر حضورا في غير ساحة عربية.
ربما باستثناء الحالة التونسية، التي قدمت فيها حركة النهضة مقارباتها التوافقية الخاصة، إضافة للتجربة المغربية، فإن باقي حالات الإسلاميين في مصر والأردن واليمن وليبيا وسورية وغيرها، لم تقدم أي منها ما يمكن تسميتها حقا بمراجعة فكرية وسياسية حقيقية. حتى في مصر، ورغم الحديث الطويل عن استهداف تجربة الإخوان في الحكم و”الانقلاب” عليها، فإن إخوان مصر لم يتمكنوا من تقديم مقاربات تجمع وطنيا وتلتقي مع باقي المكونات السياسية والفكرية، واتهموا بممارسة الإقصاء، ما سهل ومكن من إخراجهم من الحكم، وإدخال مصر بأزمة مستمرة.
ورغم الخلافات بين تجارب الإسلاميين في الأردن مع نظرائهم بغير ساحة عربية، فإن سؤال المراجعة وتقديم مقاربات توافقية تجاه المجتمع ومكوناته الأخرى مايزال ملحا في الحالة الأردنية. وفيما لا نتوقع من الإسلاميين بناء مفهوم الدولة المدنية، وشروطها السياسية والقانونية المتكاملة، فإننا نتوقع، على الأقل، مراجعات حقيقية للخطاب والبرنامج، وتقييما لتجاربهم، سواء في الأردن أو في مصر وسورية وغيرها.
قد يكون سؤال المراجعة أمام تيارات الإسلام السياسي اليوم أكثر إلحاحا وحتمية تاريخية من أي وقت مضى، فالتعثر والفشل لا يحيق فقط بتجارب هذا التيار بأغلب ساحات عمله، وليس فقط لأن نماذج الحركات المتحجرة والإرهابية الدموية، كـ”داعش” والقاعدة وغيرهما مما تحويه الساحتان السورية والليبية، انبثقت وانشقت عن معين تيار الإسلام السياسي بصورة ما، بل السؤال ملح وحتمي اليوم، لأن الدمار والانقسامات والاستقطابات الطائفية والسياسية تنغل في غير بلد عربي، وتهدد بإخراجنا –من دون مبالغة- من التاريخ!