الدعوة للأحكام العرفية ، بين خِشية الليبرالية الجديدة وعجزها
أطلق نائب رئيس الوزراء الأسبق الدكتور جواد العناني مطالبات بفرض الأحكام العرفية لمدة عامين لمواجهة نتائج أزمة كورونا، قائلاً “إن الوضع خطير والأردن يحتاج إلى أحكام عرفية لمدة سنتين للخروج من أزمة الاقتصاد المحلي ما بعد كورونا، واتخاذ إجراءات جراحية في الشأن الاقتصادي»، وهذه التصريحات تخرج عمن ينتمي للطاقم الذي تناوب سابقاً في موقع المسؤولية السياسية والاقتصادية، الذي لم يبرهن حينها أنه ساهم في صياغة سياسات ونهج اقتصادي ينهض بالاقتصاد الوطني ويعالج أزماته المتراكمة، لا بل أنه وآخرون ممن يغمزون من قناة هذا الإجراء، كانوا ضمن الطاقم المروج والمشرف على السياسات الليبرالية الجديدة التي كرست التبعية وقوضت القطاعات الانتاجية؛ الصناعية والزراعية والتحويلية.
إذا أردنا أن نسمي إيجابية لجائحة كورونا فهي إبرازها بشكل لا لبس فيه لأهمية دور الدولة المركزي في التخطيط، وأولوية تعزيز القطاعات الانتاجية الصناعية والزراعية والاستخراجية الاستراتيجية لتشكل في مجموعها عناصر الاكتفاء الذاتي بأقصى ما تسمح به المواد الخام الموجودة في باطن الأرض وفوقها، إضافة إلى توفر عناصر الطاقة المحلية غير المتجددة والمتجددة، وكم حيوي من مدخلات الانتاج المتوفرة من مصادر محلية غير مستوردة.
نعيد التذكير في هذا المقام، أن الدكتور العناني كان من أبرز المتحمسين لعقد صفقة الغاز مع الكيان الصهيوني وتأيده، مُطَمئناً الأردنيين، لعقد الاتفاقية قائلاً؛ «طالما عملت «اسرائيل» بشكل جيد مع الأردن في موضوع المياه فلا يوجد ما يمنع أن تسلك ذات السلوك في موضوع الغاز»، رُغم معرفته وإدراكه لرفض الشارع والشعب الأردني للمضي في إتمامها. وهو كذلك المدافع عن تعزيز علاقة الأردن مع الكيان الصهيوني معتبراً «أن الفرص التي ضاعت، منذ توقيع معاهدة وادي عربة، أكثر من التي تحققت». هذ الاشارات لا تعدو أكثر من دلالات لتأكيد المدرسة ونهج التفكير الذي ينتمي له نائب رئيس الوزراء الأسبق، الذي فسر موقفه بالدعوة للأحكام العرفية؛ من زاوية أن «التوقيت لا يحتمل حدوث معاكسات وآراء مخالفة، أو ترك قوى الضغط لتمانع أو تقف في وجه الخطط التي قد تلجأ إليها الدولة، وأن ترك المناخ كما هو دون ضبط، مع الاضطرار لاحقا لهيكلة قطاعات، أو اتخاذ خطوات خطيرة، لن يكون سهلا ولا ممكنا، وأن تعبير الأحكام العرفية (في تصريحه) جاء بهذا المعنى، أي خفض سقف المجادلات والاعتراضات في الداخل الأردني»، أي أنه ببساطة، يتبنى بشكل واضح إسكات الصوت المعارض، وإلغاء الهامش، الضيق أصلاً، للتعبير عن الرأي الآخر، وهو بذلك يعطي لنفسه وللفريق الحكومي وللسلطة التنفيذية بكل أجهزتها وعناصرها الحق المطلق في تحديد ماهية الاستراتيجية القادمة للخروج من الأزمة، دون السماح لوجهات النظر الأخرى من التعبير عن نفسها بكافة السبل الديمقراطية التي كفلها الدستور.
نحن لا ندعي أن طرفاً لوحده أو أطرافاً أخرى بعينها تمتلك الحقيقة المطلقة، أو الحل والمخرج السحري، لكن من أهم شروط الخروج الناجح من الأزمة، الذهاب بعكس أطروحة العناني، والتوجه لحوار وطني حقيقي يساهم فيه الجميع، بدءاً من الحكومة والأحزاب والنقابات العمالية والمهنية ومراكز الدراسات والفعاليات والخبراء، وأن لا نستثني أحداً، آخذين بعين الاعتبار جملة من الدروس أفرزتها جائحة / أزمة كورونا، وعلى رأسها مركزية دور الدولة في التصدي للأزمات الكبرى، وعجز كل البنى غير الحكومية والعامة التي نتجت عن سياسة الخصخصة في الإسهام النوعي في التصدي لهذه الأزمة ومعالجتها. ومن المراجعة السريعة نجد أن العبئ الأكبر والأساس، تحمله القطاع الصحي العام، ومؤسسة الجيش والأمن العام، وبشكل جزئي القطاع الجامعي، ويضاف لها إجراءات أخرى قامت بها أيضاً مؤسسات حكومية وعامة.
لقد ساعد كثيراً في تقليل الأضرار، رغم جسامة أثرها في الوضع الاقتصادي، خطوات الحجر والعزل المبكرة وإغلاق الحدود، التي قلصت بدرجة كبيرة جداً من حجم الإصابات والخسائر البشرية في الأرواح.
نحن إذاً كوطن أمام امتحانٍ كبير وتحدي اقتصادي سياسي غير مسبوق، لا يمكن أن ينهض منه البلد إلا بمشاركة الجميع الفعلية، ودون إقصاء لأحد.
أي أن المطلوب وبدون تردد، الذهاب إلى حوارٍ وانفتاحٍ وطني ديمقراطي حقيقي وصونٌ للحريات العامة، كما نص عليه الدستور الأردني، دون تغول أو إعاقة من قبل السلطة التنفيذية.
إن القدرة على تحمل المواطنين لصعوبة المرحلة القادمة وقساوة ما بعد كورونا، رهن باشراكهم في اتخاذ القرارات، وليس بفرض وجهة نظر واحدة – وحيدة عليهم وقسراً، دون مساحة حرة وكافية من القدرة على النقد.
إن من يطرح الأحكام العرفية ليس في جعبته سوى إعادة تطبيق سياسات اقتصادية سابقة أثبتت الحياة وبعد 3 عقود فشلها وعجزها عن ايجاد حلول ناجعة، لا بل أنها راكمت المشكلات الاقتصادية وفاقمت المديونية وعمقت عجز الموازنة، وزادت من معدلات البطالة، ورفعت من نسبة الفقر.
الدكتور العناني يدعو في سياق الحلول التي يطرحها، وتتطلب، من وجهة نظره فرض الأحكام العرفية، «التوجه نحو الاقتراض الخارجي وعدم الاكتراث لارتفاع نسبته من الناتج المحلي»، وكلنا يعلم أن ارتفاع الدين يعني مزيد من ارتفاع عجز الموازنة، ويعني استمراراً للتمسك بتطبيق سياسات وإملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين، ومزيداً من تقليص الإنفاق على قطاعي الصحة والتعليم، ومزيداً من الخصخصة ومزيداً من الضرائب ..الخ
ما يعني إعادة انتاج نفس الأزمات، لكن، بحدة وسرعة أكبر ونتائج أخطر.
إذا كان من أركان أساسية للخروج من الأزمة وبأقل الخسائر، فمن وجهة نظرنا يجب أن تستند للمحاور التالية:
-إعادة تكييف الموازنة العامة للدولة، وترتيب الأولويات، بما يعزز القطاعات الانتاجية، ويعط الأولوية لتطويرها ضمن رؤية استراتيجية الإعتماد على الذات.
-التوجه الاستراتيجي للاعتماد على الذات وتحقيق الاكتفاء الذاتي في قطاع الطاقة غير المتجددة والمتجددة.
-عدم المساس بموازنات قطاعي الصحة والتعليم، والعمل على زيادة حصتهما من الموازنة، حيث أظهرت أزمة كورونا بما لا يدع مجالاً للشك حيوية قطاع الصحة العام ودوره الرئيسي في التصدي لواحدة من أخطر الأزمات التي يواجهها الوطن عبر تاريخه.
-مراجعة وضع كافة المؤسسات المستقلة وإلغاؤها، أو دمج أي مهمات حيوية تشرف عليها ضمن الوزارات المناظرة، ما يعني تقليصاً في موازناتها التي تستحوذ على نسبة مهمة من بند المصروفات ضمن الموازنة العامة للدولة.
-العمل على تأجيل دفع أقساط وفوائد الدين العام لفترة لا تقل عن 5 سنوات، والعمل بالمقابل على الإلغاء الكامل لهذه الديون من خلال أوسع تحالف دولي عالم ثالثي.
هذه الاجراءات لا يمكن أن تتسبب باحتقان شعبي، أو حدوث «اعتراضات في الداخل الأردني»، لا بل أنها ستحظى برضى ودعم جماهيري واسع، وفقط، من يمكن أن يعترض عليها، هم النخبة المدافعة عن النهج الليبرالي الجديد.
أما الاستمرار بنفس السياسات الليبرالية المجربة، التي يروج لها نائب رئيس الوزراء الأسبق، فهي التي يتخوف من نتائجها ويرى استباقها وتشريع طريقة قمعها مبكراً.