الحياة الديمقراطية لا تتوقف عند الانتخابات فقط
في ظل أجواء استثنائية معقدة يخيم عليها الخوف من انتشار الوباء، والقلق الشديد من تداعيات الأزمة الاقتصادية، والانغلاق السياسي، وفشل السلطة التنفيذية في التعاطي الفاعل مع معظم الملفات والقضايا الداخلية والخارجية، وتغولها، مع أذرعها على الحريات وباقي السلطات.. مع إبعاد السلطة التشريعية عن دورها وواجباتها بشكل كامل منذ سبعة شهور، في لحظة استثنائية حرجة من تاريخ الأردن، باسم قانون الدفاع وبذريعة تفشي فايروس كورونا، وفي ظل ظروف تشهد اهتزازا للثقة يزداد عمقا بين معظم الفئات الشعبية، والحكومة، وتصاعد التشكيك بمصداقية الطبقة الحاكمة، وقدرتها على مواجهة معظم التحديات المفروضة على البلد..
وسط تطورات إقليمية متدحرجة وخطيرة، وانفضاح استهدافاتها التصفوية على القضية الفلسطينية، وتهديدها المصيري للكيان والوطن الأردني.. تتم دعوة المواطنين لانتخاب مجلس نيابي جديد!!
وفي حين أعلنت معظم الأحزاب الأردنية عن نيتها المشاركة في الانتخابات، والتحقت بالركب مؤخرا جبهة العمل الإسلامي. ما يزال التراشق قائما بين المقاطعين والمشاركين، حيث يُصعّد بعض المقاطعين من خطابهم، وصولا إلى تخوين وشيطنة المشاركين من أصدقائهم وشركائهم في المعارضة والعمل الوطني، في سابقة غريبة تتعدى حدود الحوار الموضوعي واختلاف الرأي والاجتهاد في القراءة السياسية، إلى تجريم المشاركة بكل أشكالها، وسط إحباط مجتمعي عام وتوقعات بمقاطعة واستنكاف تصويتي واسع في بعض الدوائر قد يتجاوز في اتساعه نسب الدورة السابقة.
وفي محاولة لفهم ظاهرة الاستنكاف عن صناديق الاقتراع، على الصعيد العالمي، فقد بتنا نلمس في عدد كبير من الأقطار، وحتى في الديمقراطيات البرجوازية الكبيرة المستقرة، حقيقة تراجع كبير في نسب المشاركة في معظم الاستحقاقات الانتخابية وبغض النظر عن طبيعة النظام السائد، حيث يتساءل الكثير من علماء الاجتماع السياسي، عن السبب وراء ذلك، وإن كان ما يزال الاقتراع العام، يشكل الوسيلة المثلى لتحقيق الديمقراطية في العالم أم لا؟
حتى أن هناك من يعتبر بأنه من الخطأ في وقتنا الحالي، النظر إلى الانتخابات والديمقراطية كشيء واحد أو متساوٍ.
ويرى البعض، بأن وصول النيوليبرالية إلى السلطة في أكثر من بلد برجوازي، قد سفّه من العملية الديمقراطية، عن طريق تهميش اليسار وشيطنته، وإضعاف النقابات العمالية، وقمع التحركات الشعبية الاحتجاجية، وإبقاء الصراع على السلطة محصورا بين النيوليبرال وبين اليمين العنصري، في ظل هيمنة رأس المال المالي والمضارب، ودخول بيوت المال والمصارف الكبرى مباشرة إلى حقل التأثير السياسي بإيصال ممثليها إلى رأس السلطة.
كما يرى الكثيرون، بأن عصر تقدم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، قد أتاح لنشطاء هذه الوسائل، مشاركة سياسية أكثر اتساعا وتأثيرا حتى من بعض المراكز والهيئات السياسية «التقليدية»، مع تبلور ميل متصاعد يدعو لمواءمة هذه الرؤية مع سرعة التغييرات والحقائق على الأرض.
بينما يربط البعض، بين تراجع نسبة الناخبين أمام صناديق الاقتراع في العالم بشكل عام، مع تراجع الثقة بنتائج الانتخابات ومخرجاتها، وإن بدت هذه الرؤية نخبوية إلى حد ما، إلا أنها تكتسب يوميا مزيدا من الأنصار.
وهكذا، يُعرِّف بعض علماء الاجتماع السياسي، الديمقراطية؛ «بأنها سيادة الشعب»، وليس مجرد إجراء انتخابات مجتمعية دورية، لكنهم يضيفون، «هذا ليس كل شيء.. إن ما يهمنا في الديمقراطية هو النظام الذي يصبح فيه «الوعي المستنير» لدى الشعب هو السيد، وليس «سيادة الأغلبية المصطنعة»، التي تفرز ممثلين سياسيين في سدة الحكم لا يعبرون بالضرورة عن الحقيقة السياسية، إذ لا بد من التذكير بأن ثمة وسائل أخرى لممارسة السياسة؛ كالانتظام في قلب المجتمع المدني، وتأسيس جمعيات، وبناء مبادرات جماعية وشبكات اجتماعية، وفرض حالة من الاشتباك السياسي الدائم.
بالطبع لم يحن الوقت عندنا بعد، لطرح تقييم موضوعي شامل عن مجمل الاستحقاق الوطني الدستوري القادم، ولا الخريطة الانتخابية وطبيعة القوى والبرامج المشاركة والمتصارعة، ولكننا، واعتمادا على التجارب الانتخابية السابقة، لا نستطيع أن نقلل من وجاهة التخوفات والشكوك التي تحيط بنزاهة إدارة الحكومة للانتخابات، وما خبرنا عنها من تدخلها الفظ في كل مراحل العملية الانتخابية للتأثيرعلى نتائجها، ومخرجاتها، خاصة مع إصرارها على الإبقاء على هذا القانون الانتخابي الظالم، المنحاز ضد المرشح الوطني السياسي، لصالح مرشحي الأجندات تحت الوطنية، من أرباب المال السياسي الأسود؛ من مقاولين وعشائريين ومواليي الكمبرادور، الذين يشكلون القاعدة الاجتماعية الحقيقية للتحالف الطبقي الحاكم.
ومن المفيد الإشارة هنا، أن تقرير مؤشر الديموقراطية العالمي، والذي نشر في بداية هذا العام عن الحالة الديموقراطية في العالم في عام 2019، والذي بحث في مؤشر الحالة السياسية ل 167 بلدا عضوا في الأمم المتحدة، قد جاء مخيبا للآمال بشكل كبير بالنسبة للأردن. حيث جاء الأردن بالمرتبة 114 وهذا يضع الأردن على حافة خانة الديكتاتورية.. علما بأن التصنيف قد استند على مجموعة من المعايير أهمها؛ العملية الانتخابية، التعددية السياسية، عمل الحكومة، والمشاركة السياسية.
لكل ما سبق فإن معظم التوقعات تشير إلى ازدياد نسبة توقعات الاستنكاف في انتخابات المجلس التاسع عشر القادم، مع تدافع جامح لعودة الأغلبية الساحقة لمعظم أعضاء، المجلس المنحل، في الوقت يتعرض فيه البرلمان والبرلمانيين إلى التوبيخ والانتقاد الشديدين.
هنا، تكون المشاركة بالاقتراع الشعبي، ليست حدثا طارئا، وإنما محطة مستحقة من اشتباك سياسي مستمر، بحيث يذهب جدل المشاركة والمقاطعة إلى ما هو أبعد وأعمق من مجرد تصويت في استحقاق دستوري وسياسيي، إلى اعتبارات المسؤولية الوطنية، وضرورة إعادة بعض الاعتبار إلى مؤسسات الدولة، وفهم أعمق لكيفية التصدي للأخطار الإقليمية وتفعيل العلاقات البينية بين القوى السياسية المعارضة وتكريس شكل من الاشتباك السياسي الميداني مع الناس والقوى الوطنية، يفضح حقيقة السياسات القائمة، ويعمل لتحسين وتحفيز سوية الحياة السياسية، وتجويد العملية الانتخابية.
ولن تأخذ أي مشاركة معناها، إلا إذا ربطت سياسيا واجتماعيا مع تحقيق الشعار الأشمل: (بناء الدولة الوطنية الديمقراطية)، من خلال التوجه لمعالجة الفقر والبطالة ومناهضة الخصخصة والتبعية، وتعزيز الدور الاجتماعي للدولة في المجتمع، والتصدي للمشروع الامبريالي الصهيوني على المنطقة.
الانجاز الحقيقي يكون بالعمل وسط الناس، بالارتقاء بوعيهم وتبني مطالبهم وهمومهم .. والسؤال الملح: كيف نبني الأغلبية المؤهلة للمواطنة، لتلعب دورها بوعي وتصميم.