الحكيم المثال / وسام الخطيب
عشر سنوات مرّت، كأنهنّ يوم أمس الأول، يرتعد قلمي مرة أخرى بمجرّد التفكير بالكتابة.. ما زلت أذكر تفاصيل عشية السبت الباردة تلك، في السادس والعشرين من شهر كانون الثاني للعام ألفين وثمانية، تلك الليلة التي كان مجرد الحديث عنك يُقحم الدفء فيها.. أذكر أيضاً تلك الفرحة العارمة التي اجتاحتني ورفيقي لحظة إعلامنا أن الليلة التالية هي ليلتنا لمجالستك في المستشفى، وكيف أبحرنا في الغد الذي سيجمعنا بك، كما أذكر كمّ الأسئلة والمواضيع التي حضّرتها لمناقشتها معك.. وأذكر تمامًا الصفعة التي وجهها لنا القدر، والبرد والسوّاد اللذان خيّما على المكان حين رنّ الهاتف وتلقّينا الخبر الصاعقة.
أذكر تلك الليلة بكامل تفاصيلها التي ذكرتُ لكم والتي لم أذكر، وأكرر هذا المشهد، الذي لا يغيب عني، كلما أردتُ أن أكتبَ أو أتحدثَ عنك! لم يمهلني القدر ليلتها بضع ساعات لتشرق الشمس وأكون معك.. أيقظتني تلك الصفعة على يقين أن القدر لا ينتظر أحدًا، وأن مثلنا عليه العمل فورًا دون انتظار، فأقسمت لك يومها أن لا شيء سوى العمل، والمزيد من العمل، فمثلنا يكتب قدره ولا ينتظر القدر.
حكيمٌ حكيم، عرف الطريق الأمثل لمداواة جرح الوطن.. أسس ورفاقه لبداية مرحلة جديدة من الصراع المتجدد والمتواصل مع العدو الصهيوني، مرحلة جديدة من العنف الثوري في مجابهة العنف الصهيوني والرجعي. بدأ بتنظيم وتعبئة الجماهير العربية عامة، والفلسطينية على وجه الخصوص، لمقارعة قوى الإمبريالية والصهيونية بالسلاح، سلاح المقاومة، الذي أثبت التاريخ أنه أنجع الأسلحة لسحق كافة أشكال العدوان الاستعماري التوسعي، هذا السلاح الوحيد الذي بقي للجماهير كي تعيد التاريخ ومجراه الحقيقي.. فكانت الوسيلة؛ حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد، بالاعتماد على الجماهير العربية الكادحة، تحت شعار؛ الحقيقة كل الحقيقة للجماهير.. وكان الحزب الثورة الذي توأم بين الكلمة والعمل على طريق الوحدة والتحرير والعودة.
أن تكتب عن الحكيم ليس أمرًا سهلًا، تمامًا كأن تقرأ الحكيم، فالحكيم بفلسفته الخاصة ما بين الخاص والعام، والداخل والخارج، والتكتيك والاستراتيجيا، استطاع الجمع بين الماركسية والقومية، فقد كانت “ماركسيته” قومية تماماً كما كانت “قوميته” ماركسية؛ بمعنى أن الحكيم كان يربط الماركسية والقومية بعلاقة جدلية، على الأقل هكذا شخصيًا أفهمه. فالكتابة أو القراءة دون فهم وتعلّم هي مجرد حبر على ورق يتآكل مع الزمن؛ فالحرف دون فعل هو جماد لا تأثير له. أما الفعل المقترن بالوعي، نتيجة الكتابة والقراءة والفهم والتعلّم، فهو المؤثر وهو ما يُخلّده التاريخ.
ذكرى رحيل الحكيم اليوم ليست كأي ذكرى، نحفظها جيدًا، ونضعها على رزناماتنا، أو لأقول أنه لا ينبغي لها أن تكون كذلك. إنها محطة هامة للمراجعة والنقد والتعلّم للانطلاق بقوة أكبر والمواصلة على نهج الحكيم الثوري السليم.
يُعلّمنا الحكيم، ويُعطينا سرًا لخّص فيه كل النظريات الثورية، ويقول؛ “إن أحد الأسباب الرئيسية لتشكيل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين هو المنظور الطبقي الذي أعطيناه للنضال الفلسطيني والعربي. تعلّمنا من خلال التجربة أن الطبقات الأكثر اضطهادًا – العمال والفلاحين وقطاعات من البرجوازية الصغيرة، والفلسطينيين في مخيمات اللجوء – هم الأكثر تناقضًا وتناحرًا مع التحالف الإمبريالي الصهيوني الرجعي. إنهم من يكتبون التاريخ بإصرار ومثابرة في هذه الحرب طويلة الأمد دون تردد”، ولهذا السبب، ولأسباب عدة، جاءت جبهة الحكيم للتعبئة والتحريض وصقل الوعي الجمعي لدى تلك الجماهير والطبقات الأكثر اضطهادًا، ولتعمل على توجيهها ووضعها على المسار الصحيح. لكن، ما السبيل إلى كل ذلك؟ لقد أجابنا الحكيم على ذلك أيضًا، إذ أوصانا وقال؛ “الظروف الاقتصادية الاجتماعية تتحول إلى حقد طبقي إذا وجد الحزب الماركسي الثوري، أما غير ذلك فسيكون حديثاً عاطفياً سيُنعشنا قليلاً ويُخدّرنا كثيرًا، فاقتصدوا بكل شيء إلا الثقافة!”
بالحديث عن وصية الحكيم، أرى أن وصية الحكيم لم تكن تلك التي يتداولها الجميع – رغم أهميتها -، وهي كانت آخر كلام تحدّث به؛ “أن تمسّكوا بالوحدة والمقاومة”، هذا كلام من الطبيعي أن يؤكد عليه الحكيم لأنه النهج الذي تسير عليه الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين منذ انطلاقتها. في الحقيقة، باعتقادي، كانت وصية الحكيم الأهم، موجّهة داخليًا– أقصد لرفاقه في الجبهة الشعبية -، كانت في الوقت الذي أعطى فيه درسًا تنظيميًا لا يُنسى لرفاقه من جهة، ولبقيّة فصائل العمل الوطني الفلسطيني من جهة أخرى، وهو أن تنحى عن الأمانة العامة للجبهة، ليكون بذلك أول مسؤول لفصيل فلسطيني يتنحى طوعًا عن موقع المسؤول الأول، ليُفسح المجال لغيره من الرفاق، كانت الوصية إذ وقف أمام المؤتمر الوطني السادس للجبهة عام 2000، وقال: “لقد أعطيت الجبهة عمري وجهدي سنوات طويلة ويفرحني أن تواصل الجبهة طريقها وتشق سكّتها حقل الواقع وأن تجدد ذاتها، وأنا أعرف جيّدًا طينة أعضائها، وقيمة وعمق التراث والأخلاق والقيم التي زرعتها الجبهة كل هذه السنين، إنني على ثقة بأنكم لن تفرّطوا بهذه الكنوز الوطنية فإن جيل المستقبل الذي سيحمل الراية ويواصل السير للأمام سيتمكن من تحقيق أهدافه، وتأكدوا بأنكم لا تبدؤون من الصفر، بل لديكم طاقات وقوى كامنة لا تستهينوا بها، وهنا أُحمّلكم مسؤولية المحافظة على هذا الإرث النضالي الذي سيبقى أمانة في أعناقكم”.
نقرأ الحكيم، ونستذكره اليوم، لا لنبقى مُعلّقين بحبال الماضي كما يتّهمنا بعض السّوداويّون، بل لنتعلّم أكثر من تجربته بنجاحاتها وإخفاقاتها. لأننا نُدرك جيدًا أن الوصول إلى المستقبل المشرق المنشود لا يكون دون قراءة تاريخنا جيدًا والتعلم منه.
بالتأكيد، سيفرح الحكيم اليوم، بالضبط كما كان يفرح عندما كان بيننا، عندما يواصل رفاقه شق طريقهم الثوري السليم، المبني على الإرث والأخلاق والقيم الثورية، الذي أسس له وبدأ فيه ورفاقه الأوائل؛ إذن، المطلوب بدايةً أن نكون أهلاً لثقة الحكيم ونصونها ولا نُفرّط بها؛ أن نحمل الراية ونواصل التقدم، ونتحمّل مسؤوليتنا التاريخية لنتمكّن من تحقيق غايتنا الوطنية.