الثورة البوليفارية وتحدي “الثورة المضادة” قراءة في أسباب وتداعيات خسارة اليسار في فنزويلا/ بقلم: د. عصام الخواجا
- حرب اقتصادية إمبريالية رجعية فاشية شاملة، تعددت أدواتها، لتقويض القلاع (الدول) التي عرقلت تمدد المشروع الليبرالي الجديد ونفوذه الجيوسياسي، خلال العقدين الماضيين
لم يكن تقدم المعارضة اليمينية “طاولة الاتحاد الديمقراطي”، وتراجع تحالف اليسار “القطب الوطني الكبير سيمون بوليفار” بالأمر المفاجئ في ضوء استطلاعات الرأي واشتداد الأزمة الاقتصادية، بقدر ما كان فارق الأصوات مؤلماً بسبب إحجامِ جزءٍ مهم من “الكتلة التشافيزية” عن التصويت.
لقد حقق اليمين الفاشي تقدماً في عدد الأصوات التي حصل عليها مقارنة بآخر انتخابات رئاسية بزيادة أربعمائة ألف صوتاً فقط، فيما خسر اليسار البوليفاري وعلى رأسه “الحزب الاشتركي الفنزويلي الموحد” ما يقارب المليوني صوت. أي أن رُبع الكتلة “التشافيزية” لم تقترع، لم تعطي اليمين، لكنها عاقبت التحالف الذي يحمل مشروع تشافيز البوليفاري بالاستنكاف عن التصويت.
حرب اقتصادية، حرب غير تقليدية
الحقيقة المؤلمة نتاج مباشر للأزمة الاقتصادية العميقة التي أثقلت كاهل المواطن الفنزويلي الفقير، وقلصت قدرته الشرائية باضطراد، إذ تراجعت قيمة “البوليفار” مقابل “الدولار الأمريكي” وتهاوى سعر صرفه في السوق السوداء من 8 بوليفار للدولار الواحد في منتصف 2010 ليصل إلى 173 بوليفار للدولار الواحد في نهاية 2014، لكن فقدان البوليفار لقيمته مقابل الدولار تسارع بشكل شاقولي منذ بداية عام 2015، ليصبح 920 بوليفار للدولار الواحد في 5 كانون أول 2015، وهو اليوم الذي سبق الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وهو ما رصده “صندوق النقد الدولي”، الذي قَدَرَ نسبة التضخم في الاقتصاد الفنزويلي بحدود 160%.
هذا التهاوي المتسارع كان نتيجة مباشرة “لسلاح اقتصادي” استخدمته البرجوازية وقوى رأس المال الفنزويلي واليمين لزعزعة الاستقرار والنفخ في الاحتقان الشعبي، من خلال تَقَصُد فقدان شامل للسلع الأساسية في السوق بأسعارها المقررة رسمياً، عبر تخزينها وحجزها واحتكار تسويقها من قبل شبكة التجار وقوى رأس المال التابعة لليمين، وتوفيرها في السوق السوداء بأسعار باهظة.
حرب اقتصادية امبريالية رجعية فاشية شاملة، تعددت أدواتها، لتقويض القلاع (الدول) التي عرقلت تمدد المشروع الليبرالي الجديد ونفوذه الجيوسياسي، خلال العقدين الماضيين. ونتائج الانتخابات في الأرجنتين و فنزويلا وما هو متوقع (للأسف) في البرازيل، والذي سيفضي إلى مغادرة “حزب العمال” السلطة، هي كلها حلقات في سلسلة الاستهداف الامبريالي الرجعي الفاشي.
من أدوات هذه “الحرب الاقتصادية الشاملة” التخفيض المتعمد لأسعار النفط لما دون السعر المقدر لحساب موازنة الدولة، والذي يستهدف اقتصاد روسيا، وإيران، وفنزويلا، فعائدات النفط توفر السيولة النقدية للإنفاق على موازنات الدولة وبرامجها الاجتماعية في التعليم، والصحة، والسكن، والضمان الاجتماعي وغيرها. وتراجع هذه العائدات لأقل من النصف سيرتد تقليصاً في موازنات هذه القطاعات. علماً بأن 96% من السيولة بالعملة الصعبة المخصصة لتمويل موازنة الدولة تأتي من عائدات بيع النفط.
بين سلطة الرئاسة وسلطة البرلمان، الشعب أداة الثورة
نتائج الانتخابات البرلمانية أدت إلى حالة استقطاب وزعت السلطة بين يمين يهيمن على البرلمان ويسار يسيطر على مؤسسة الرئاسة والجيش، ولا يخفي اليمين نيته إلغاء عدد من القوانين، التي شرعتها الثورة البوليفارية، وتقليص موازنات الصحة والتعليم، وخصخصة المؤسسات التي تم تأميمها .
وقد وصف مادورو الحالة “بالأزمة االتاريخية”، وأقر بأخطاءٍ في عمل مؤسسات الدولة، ساهمت فيما وصلت اليه البلاد، لكنه كما “القطب الوطني الكبير سيمون بوليفار” رفض الاستسلام للنتائج، وأكد أن المجالس الشعبية في الأحياء هي من سيحمي منجزات الثورة.
وبدأ يتضح في الأفق احتدام للصراع بين قطبي السلطة حول ملفات مختلفة، من ضمنها موازنة بناء نصف مليون شقة خلال 2016، كان مادورو قد التزم بتنفيذها سابقاً، وتوجه اليمين لخصخصة القطاعات التي تم تأميمها. كما أعلن مادورو تمسكه بالجيش والقوات المسلحة البوليفارية كضامن لاستمرار مشروع تشافيز، والجيش بدوره أعلن التزامه بمشروع تشافيز البوليفاري ودعمه لمؤسسة الرئاسة.
تحديات وأولويات
عانى الاقتصاد الفنزويلي من اعتماده شبه الكلي على عائدات النفط، دون عمل جدي لتنويع وتوسيع القاعدة الإنتاجية، ورغم أن غالبية هذه العائدات النفطية انفقت لتحسين الواقع الاجتماعي والاقتصادي للطبقة العاملة وعموم الكادحين والفقراء من الشعب الفنزويلي، إلا أن إهمال بناء القاعدة الإنتاجية الصناعية شكل نقطة ضعف خطيرة.
محاربة واستئصال الفساد ودوره التخريبي من صفوف الثورة البوليفارية من أكبر التحديات، ويكاد يكون من أهم الشروط لاستعادة الثقة والنفوذ داخل الأوساط الشعبية و”الكتلة التشافيزية” المستنكفة بسبب الأخطاء والاخفاقات التي كانت العامل المباشر للهزيمة الانتخابية لليسار.
في مقال سابق من “نداء الوطن” ذكرت بأن مشروع بناء الاشتراكية بعد الوصول للسلطة عبر صناديق الاقتراع تواجهه تحديات كبرى، تتطلب امتلاك الشروط والأدوات والبرامج الضرورية لتحقيقه، والتغلب على عقبة الامبريالية الأمريكية وأدواتها الداخلية، التي تعمل بكل امكانياتها لإجهاض مشروع التغيير الديمقراطي الثوري الذي يسعى للتأسيس لبناء الاشتراكية.
وكنت قد نوهت في ذات المقال إلى إن قوى الثورة المضادة بعينها تتمتع بفرص العودة للسلطة والحكم عبر صناديق الاقتراع، وهذا الاحتمال ليس بالبعيد، وتحققه يعني الانقضاض على المنجزات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المنجزة لصالح العمال والفقراء والمرأة والطفولة. هذا التحدي يفرض على القوى الاشتراكية في هذه البلدان مراجعات مستمرة لتطوير برامجها وتجديد أدائها وتوسيع القاعدة الاجتماعية التي تمثل مصالحها وتستند إليها”. هذا بالضبط ما حدث في فنزويلا يوم السادس من كانون أول الماضي، حيث عاد اليمين الفاشي المرتبط عضوياً بالامبريالية الأمريكية للسلطة عبر صناديق الاقتراع التي أوصلت تشافيز ومشروعه للسلطة قبل ستة عشر عاماً.
خسارة هذه الجولة ليست خسارة للحرب، وعلى القوى الثورية الطامحة لبناء الاشتراكية، أن تقوم بالمراجعة النقدية والوقوف أمام دروسٍ جديدة أعمق وأوسع من مجرد الامساك بالجيش بعد الفوز في الانتخابات، لها علاقة بواقعية وتماسك البرنامج، وحسن الأداء والإدارة، وأولوية بناء الاقتصاد الانتاجي، ومحاربة الفساد، وعدم السماح بحدوث الثغرات التي تسمح بتغلغل الثورة المضادة والمراجعة الدورية المستمرة لمخرجات التجربة في كل مرحلة.