البيئة الآمنة للتطرف/ بقلم: إبراهيم غرايبه
أسوأ ما يمكن أن يقع في مواجهة التطرف، تحولها إلى صراع مسلح بين الأجهزة الأمنية والمتطرفين. فكل حالات المواجهة المسلحة بين السلطة والجماعات المتطرفة كانت مرعبة ومخيفة، ولم تنتصر على التطرف. والأسوأ من ذلك مواصلة غض الطرف عن المصادر الآمنة للتطرف في مجتمعاتنا ومؤسساتنا التعليمية والدينية ومناهجنا المدرسية والجامعية، والدور الديني للدولة غير المطلوب دينيا. وبالطبع في السياسات العامة في الإدارة والتنمية والإنفاق وإدارة وتوزيع الفرص؛ أو بعبارة أخرى تحويل المجتمع إلى أقلية تتمتع بكل الموارد وأغلبية مهمشة ومحرومة. إننا بذلك نفعل كما نواجه حريقا هائلا ولكننا ننشغل بإطفاء الحرائق ولا نلاحظ الوقود الذي يتسرب بكثافة ويغذي النيران ويشعل حرائق جديدة وإضافية.
هناك وعي إنساني جديد يتشكل في العالم، ينشئ قيما وموارد وثقافات جديدة، إذا لم نسارع في استيعابها واستدراكها نتحول جميعا إلى أمم لا يقبلها العالم ولا تقبل العالم. فاليوم، يكاد العالم يتغير تغيرا جذريا، في الأفكار والقيم وأسلوب الحياة، ومعنى القوة والضعف، والتقدم والتخلف، والثراء والفقر، والانتماء والمشاركة. ولم تعد المدارس والجامعات والمؤسسات العامة والاقتصادية والأعمال والمصالح كما كانت عليه. يجب على الدول والمجتمعات إدراك أنها بحاجة لتعلم مهارات وخبرات وعلوم ومعارف ومبادئ جديدة في الحياة والعمل والموارد والتقدم والتنمية، أو أنها مهددة بالتحول إلى مجاميع تتقاتل على الماء والكلأ.
فالمكان يحل بدلاً من رواية الأمة والدين والإثنية؛ والتعاون والتنافس والعمل المشترك تحل بدلاً من الوحدة والاندماج/ الصراع المرير؛ والمعرفة والعمل يشكلان الاقتصاد بدلاً من الموارد المادية المباشرة؛ والتنظيم والإدارة بدلاً من الأموال والنقود. والزراعة التي تخلينا عنها تعود من جديد أساساً لتنظيم الموارد والصناعات والثقافة والعلاقات الاجتماعية والفنون والآداب؛ والمدارس والجامعات التي اقتبسناها وأسرفنا في إنشائها تحل بدلاً منها شبكات الاتصال والفضائيات؛ والمهن والأعمال التعليمية والطبية والتقنية التي أنفق الكثير لتشكيلها أصبحت عديمة/ قليلة النفع، تحل بدلاً منها خبرات مجتمعية وشبكات جديدة من المعارف والعلاقات تعيد تعريف المهن والمهنيين وأدوارهم. هل سيكون الجيل القائم من المعلمين والصحفيين والمدربين والأطباء هو آخر الأجيال؟
كل ما يمكن أن تفعله المؤسسات التوجيهية والتثقيفية والإرشادية والتعليمية والإعلامية، يمكن أن تتفوق عليه أعمال ومشروعات فردية وصغيرة في الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي. وليس من خيار أمام النخب التي تدير الإعلام والأفكار إلا أن تنسحب وتترك للمجتمعات نفسها أن تتجادل بأدواتها المجتمعية وبمواردها المتاحة، ففي وصاية النخب السياسية والاقتصادية على المجتمع والناس زيادة للأزمة وهدر للموارد، إذ إن الأفكار والاتجاهات لا تصنعها ولا تمنعها أيضاً قرارات وتشريعات سياسية وإدارية وإن كانت تؤثر فيها، والعالم يتغير والمجتمعات تتغير، والأفكار والاتجاهات تتغير أيضاً. السياسة نفسها تتغير، ولم يعد معناها كما كان في عصور ما قبل الثمانينيات.
الجيل الجديد، بكل اتجاهاته وأزماته وإنجازاته، يعكس حيرة السياسيين الكبار، ويؤشر بوضوح إلى الفوضى في الأفكار والبرامج. الفوضى ليس بمعنى الذم الشائع، ولكن بمعنى المجهول أو غير المكتشف بعد؛ القواعد والأفكار التي لا نعيها تمام الوعي والإدراك، ولكننا نطبقها ونؤمن بها من دون أن ندرك أو لأننا لا نريد أن نعترف بها، ولكنها تعمل وتحرك الناس والمجتمعات.
معظم دول العالم تشكلت وفق رواية قومية؛ دولة الأمة، فلم تكن الدول المستقلة في الحرب العالمية الأولى تزيد على الـ20 دولة، ولكنها اليوم مئتا دولة وفقاً لعضوية الأمم المتحدة.
وصعدت الليبرالية والماركسية والفوضوية تعبيراً عن أزمة وعجز القومية، وفي مقابلها صعدت أيضاً الحركات اليمينية المتطرفة، وأشهرها بالطبع النازية، ولكنها لم تكن الحركة الوحيدة في العالم. ثم نهضت الحركات الدينية رداً على الشعور بالعجز والخواء. واليوم تصعد حركات واتجاهات تبحث عن العدالة الاجتماعية، ترى في المكان رابطاً وأساساً للعقد الاجتماعي بدلاً من القومية والإثنية، وتبني السياسة على المصالح والأعمال، وتحيّد الصراعات.