الانتخابات لا تقل خطورة عن التنسيق الأمني (1)
فقد اليسار الفلسطيني وخصوصا القوى الرئيسة فيه ما كان يميز مقاربتها للأداء السياسي في مراحل سابقة، حيث كان يبنى التحليل والموقف والأداء السياسي عموما على أساس فكري، ووفقا لمنهج علمي، وليس كما نرى اليوم ونلمس للأسف الشديد مواقف وسياسات ارتجالية وانفعالية، حيث يطغى على الأداء الارباك والتخبط وعدم الوضوح في الرؤية والممارسة.
ونستغرب ما نسمع من مواقف تتسلح بالاعتبارات والمقاربات المحلية المناطقية لتجمعات بعينها، وتتخذ الموقف بناء على أقاويل واردة من هنا وهناك. فيما تشكل الاجتهادات الفردية والرغبات الشخصية (حتى لا نقول المصالح الشخصية)، الشكل السائد للموقف والأداء، المغلفة غالبا بالتمنيات ذات الطابع الأخلاقي الساذج، ويتستر بخطاب أخلاقي يدعي الحرص على الوحدة الوطنية، حتى صار شعار “الوحدة الوطنية” جواب لكل سؤال ليس له جواب، فحين لا تسعفنا الاجابة المناسبة، يلقي على مسامعنا جواب ممجوج فارغ من أي محتوى، ليس لعدم أهمية الوحدة الوطنية الحقيقية، بل لأنه لم يوضح لنا أحد ما هو مضمون الوحدة الوطنية المنشودة، وكيف سوف تتحقق، ولأي أهداف، فتبدو وكأنها لمة أخوية تسمو فوق كل الاعتبارات السياسية، في خطاب وعظي أخلاقي بحت، يدعو ويرجو ويتمنى.
ولكن، في نهاية الأمر إن الوحدة الوطنية قضية سياسية، تحققها قوى سياسية تمثل شرائح اجتماعية ولها مصالح تتشابك هنا وتتناقض هناك، فيصبح هذا ممكنا وذاك مستبعدا، حتى لو قيل في الوحدة أشعارا وكتبوا لها حجبا، وقد سمعنا الكثير من هذا وشاهدنا أكثر من ذاك، فيما الوحدة ما زالت بعيدة المنال.
ولأن الانتخابات الفلسطينية المزعومة، تشكل مفصلا حساسا وخطرا، لا بد من التوقف عندها لدراسة ظروفها وملابساتها بشكل عقلاني وهادئ، يساعد على بلورة الرأي المناسب منها.
لكن، وقبل الدخول إلى عمق الموضوع، نشير إلى أن الانتخابات ليست حدثا معلقا في الفراغ، أي أنها تأتي في سياق سياسي، وهي جزء من عملية تخضع لمؤثرات الواقع ومصالح القوى الفاعلة فيه، ويعني هذا ضرورة التدقيق والتمحيص ليس في مواقف وتصريحات هذا الطرف أو ذاك، بل في طبيعة مصالح هذه الأطراف ومن تمثل، ومع من تتشابك إقليميا وعربيا ودوليا، وبالتالي أين هم في المعادلة المكثفة للسياسة، على قاعدة أن السياسة هي اقتصاد مكثف.
صحيح أن بعض القوى الفلسطينية المتحمسة للدخول في الانتخابات، لديها رؤاها وحساباتها التي نفترض أنها تنشد المصلحة الوطنية من موقعها وكما تراها. ولنا هنا رأيا شخصيا أخرى انطلاقا من رؤية مختلفة للمصلحة الوطنية الفلسطينية، وعلى اساس المنهج العلمي، الذي يحترم علمية التحليل والتشخيص والذي يساعد على أداء سياسي منسجم على المدى الاستراتيجي، ولا يتحول الأداء إلى شعاراتي يتمسح بالأخلاقية، يتسم بالخفة والتبعية حيث يستسهل السير مع السائرين، تحت شعار يد الله مع الجماعة، بدل أن يكون هو بحكمته وعقلانيته ورزانته يحدد وجهة الجماعة وبوصلتها.
لذلك سنحاول ما استطعنا بلورة رأيا مستندا إلى ثلاث محددات، وهي:
– الأساس الطبقي: مصالح الأطراف في تحديد الخيارات والاتجاهات العامة
نريد المرور على هذا المحدد بشكل سريع، لأننا نعتقد أن هذا المحدد يتعلق برسم الإطار العام لطبيعة الصراع ومواقع القوى الداخلية وتحالفاتها الخارجية وتوجهاتها الإستراتيجية البعيدة. لذلك، يكفي أن نشير إلى أن أوسلو يمثل رؤية طبقية لطبيعة “المشروع الوطني”، وصلنا إليه من خلال تشابك المصالح للقيادة المتنفذة لمنظمة التحرير وتحالفتها العربية والدولية.
وهذا الفريق لا ينكر أن أوسلو مشروعه وأنه متمسك به ومشكلته عدم تمسك الأطراف أخرى به.
– ترابط المشهد الشامل في المنطقة وتداعياته على الصعيد الفلسطيني
كان لافتا للانتباه، السرعة التي جرت فيها المصالح الخليجية، لاسيما بين السعودية وقطر، وإنجاز وحل مختلف الملفات العالقة، وحتى الشكلية منها، مثل اظهار الود في العلاقات الشخصية الحميمة. وحتى حلحلة بعض العقد على أكثر من صعيد ومحور، المصرية القطرية والسعودية التركية والامارتية التركية، ذلك يشير إلى أن الفرقاء ليسوا خارج الاصطفاف العام للصراع في المنطقة، طالما أن الإدارة الامريكية لها الكلمة الفصل، في تحديد الأدوار وتوزيع المهام وتحديد هوامش حركة اللاعبين.
لن يجر تغيير في العنوان الرئيسي، وهو احتواء الوضع الفلسطيني، لكن شكل وطبيعة هذا الاحتواء ستتغير، من احتواء وضبط وتهدئة محاور غزة والضفة، في الوقت الذي لم يكن المشروع الإقليمي قد نضج، إلى محاولة تطوير صيغة الاحتواء لدرجة استيعاب وتكييف كافة القوى الفلسطينية، لتستجيب لشروط ما تقتضيه النقلة الاسترتيجية المطلوب تحقيقها في المنطقة، التي كانت خطوات التطبيع الخليجية سياقا ضروريا تمهيديا لانضاجها وبلورتها، وستكون خطوة التطبيع السعودية خاتمتها ومؤشرا على اختمار المشروع الإقليمي، القديم الجديد، المسمى الشرق الأوسط الكبير، والذي يشمل بناء منظومة اقتصادية سياسية امنية سيكون الكيان الصهيوني محورها الرئيسي.
امام إدارة بايدن مهمة شكلية، وهي عملية ميكياج تجميلي لسياسات إدارة ترامب، وذلك لسببين:
أولا، عموما بخصوص صفقة القرن وكل تفرعاتها، على الصعيدين الفلسطيني، والتطبيعي العربي، إنطلاقا من أنه لا خلاف بالعمق في الأهداف الإستراتيجية البعيدة، بين الإدارات الأمريكية، إنما المنافسة تكون، بمن يستطيع تحقيق هذه الأهداف بأقل خسائر وبأكبر المكاسب لها ولحلفائها. لذلك كل خطوة قام بها ترامب وتحققت، لن يتم التراجع عنها، وكل خطوة أحدثت التباسات أو كلفت خسائر، سيجري تعديل أسلوب العمل عليها.
ثانيا، بخصوص استحقاق الانتخابات الفلسطينية تحديدا.
إن الذي سرع في اخراج مراسيم الانتخابات هو كونها ستكون مثلث بارمودا الذي سيغرق الجميع في سياق هذا المستنقع. واهم من يعتقد أن السياسة الامريكية سوف تختلف في عهد بايدن عنها في عهد ترامب على الصعيد الفلسطيني، سوى بالقليل من الكلام المعسول، دبلوماسية نشطة لا تقدم ولا تؤخر، لأن نسف وتجاوز حل الدولتين لم يكن من بنات أفكار ترامب، بل هو حصيلة العملية التي انطلقت من أوسلو ونضجت وتجاوزت بالوقائع حتى ما أراده وفكر فيه مهندسوها على المستويات، والآصعدة كافة وخصوصا على الصعيد الفلسطيني.
– الأساس الوطني العام والجامع، والذي يتجاوز المحلية والمناطقية
فإذا ما جرت هذه الانتخابات، فإن الفاعلين والمؤثرين والقادرين على جعلها ممكنة، لن يسمحوا بحدوثها، إلا اذا ضمنوا أن تكون بعكس ما نريدها، إلا إذا كنا بسذاجة أن نتصور، أو خطورة أن نعتقد بأن المصلحة الوطنية الفلسطينية، هي كما يتصورها بايدن وإدارته، وكما بريدها نتنياهو وحكومته، وكما تقبل بها قوى التأثير العربي سواء الخليجية أو في نظامي مصر والأردن.
إذا، الانتخابات المطروحة كاستحقاق هي بعكس ما تبدو عليه، أو كما يجري تصويرها من قبل البعض، كمناسبة لتجاوز مرحلة الانقسام ونقل الوضع الفلسطيني المفكك إلى الوضع الطبيعي، عبر اللجوء للإرادة الشعبية وصناديق الاقتراع. لكن السؤال المطروح هنا، لاي غاية سيسمح بلملمة التشرذم وتوحيد النظام السياسي الفلسطيني؟ هل لتمكينه من استنهاض الطاقات والهمم لمواجهة التحديات والمخاطر القادمة؟
لذلك إن الهامش المسموح به لاعادة صياغة الوضع الفلسطيني، والوحدة الوطنية كما يحب البعض أن يسميها، هي في أحسن حالتها انتظام وتكيف بالتزامات أوسلو، وخصوصا تلك القوى التي مازالت تعاند، ويمكنها أن تؤثر على السياق العام للتوجهات في المنطقة، تمهيدا لاستيعابها في سياق التوجهات الجديدة.
لذلك من الخطأ الفادح الإنطلاق في مقاربة موضوع استحقاق الانتخابات المقبلة، من ضرورات جزئية ومعطيات وحاجات مناطقية في غزة أو الضفة أو حتى القدس.
السؤال الصحيح الذي يرسم ملامح الإجابة الصحيحة، هو: هل تشكل الانتخابات المزمع اجراءها مسارا وطنيا كاملا؟ (في مرجعيتها وآليتها العملية وبمراحلها المختلفة وبمشاركة حقيقية فاعلة من كل مكونات شعبنا) لكي تكون نتائجها مضمونة لصالح إعادة صياغة النظام السياسي الفلسطيني لتوحيد الطاقات لمواجهة المخاطر والتحديات المحدقة.
والاجابة البسيطة والمقتضبة على ذلك، تقول: إن عملية تجري تحت حراب الاحتلال من ألفها إلى يائها، لا يمكن أن يسمح لها هذا الاحتلال أن تجري بعكس مصلحته، ولو اجتمع العالم كله، فالكيان الصهيوني كما نعرفه وبالاستناد إلى حلفائه وعلى رأسهم الولايات المتحدة، لن يسمح بذلك.
خلاصة القول:
في المحصلة العامة، وبناء على ما تقدم من عناوين، إن المشاركة في الانتخابات القادمة المزمع إجراؤها، بهذه الأجواء والمعطيات المحلية والإقليمية والدولية، وتحت أي ذرائع تقدم، في الحقيقة هي سقطة كبيرة، وغوص في مستنقع الوهم، الذي يتم استدراج القوى والأطراف كافة إليه، وبجهود مختلف القوى الإقليمية والعربية المختلفة، واهم أي طرف فلسطيني يتصور أن مشاركته يمكن أن تؤدي إلى نتائج بعكس رغبة هذه القوى الإقليمية العربية والدولية المؤثرة، أو أن هذه العملية ستستكمل لبناء النظام السياسي الفلسطيني الذي يوحد ويجمع ويستنهض الطاقات لمواجهة المخاطر.
إن الأفضل للقضية الوطنية وللشعب الفلسطيني، أن نقف خارج هذا المستنقع، ونحاول أن نشرح ونوضح مخاطر الخوض فيه، بل وندعو كل من هو حريص وغيور على مستقبل القضية، إلى عدم السقوط فيه.
تحت الاحتلال وبرعايته لا يمكن بناء ما يسمى سلطة وطنية، وتحت الاحتلال لا يوجد برلمانات صفراء، لأنه لا يصح أن تكون عملية ديمقراطية أصلا، بل يوجد الاحتلال بكل أبعاده ومعانيه، كفعل عنيف، بطش وقهر وقتل واعتقال، وبكل أوجهه الأمنية والسياسية والاقتصادية، وهذا الاحتلال لا يقيم أي اعتبار لأي شيء سوى لمصلحته التي تقتضي الغاء الآخر الفلسطيني. إن العملية الانتخابية وفقا لهذه القاعدة والمرجعية، من حيث الدور والوظيفة وارتباطا بالتوقيت، لا تقل خطورة عن أي بنود وتفرعات اتفاق أوسلو، من التنسيق الأمني إلى اتفاقية باريس الاقتصادية.
>>> يتبع