الاحتلال يهدّد ناشطي المقاطعة بـ”الاغتيالات المدنيّة الموجّهة
دخلتْ حركةُ مقاطعة إسرائيل مرحلةً جديدةً تُنْذر بتصعيد المواجهة مع الكيان الصهيونيّ إلى ذرًى غيرِ مسبوقة. ففي الأسبوع الماضي وجّه عددٌ من القادة الإسرائيليين رسائلَ تهديدٍ صريحةً ومبطّنةً إلى ناشطي المقاطعة، وعلى رأسهم الرفيق الحبيب عمر البرغوثي، أحدِ كتّاب مجلّة الآداب البارزين، والمشرفِ على عددٍ من ملفّاتها المميّزة عن “مقاطعة إسرائيل” و”المقاومة المسلّحة” و”الدولة الديمقراطيّة العَلمانيّة في فلسطين التاريخيّة” و”أصوات من فلسطين الجديدة.”
جاءت رسائلُ التهديد هذه في سياقِ أوّلِ مؤتمرٍ ضخمٍ في الكيان الغاصب (القدس المحتلّة) يخصَّص لمواجهة حركة BDS (حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها) بعد أن استفحل “شرُّها” ولم يعد تجاهلُها يجدي فتيلًا. وقد نظّمتِ المؤتمرَ جريدةُ يديعوت أحرونوت، والموقعُ الإلكترونيُّ التابعُ لها Ynet، وبحضور أكثر من ألف شخص. وكان من بين أبرز المتحدّثين: رئيسُ الكيان روفِنْ رِفلِن، ورئيسُ الصندوق القوميّ اليهوديّ والمؤتمرِ اليهوديّ العالميّ رون لودر، ووزيرُ الأمن العامّ والشؤون الإستراتيجيّة جلعاد إردان، ووزيرُ التربية نافتالي بينيت، ووزيرُ الاستخبارات إسرائيل كاتز، ووزيرةُ الخارجيّة السابقة تزيبي ليفني (لاحِظوا، بالمناسبة، تعاونَ “التربية” مع الاستخبارات والأمن والخارجيّة).
يَعكس انعقادُ هذا المؤتمر، بحجم المشاركين فيه وبمراتبِهم القياديّة البارزة، الأثرَ الكبيرَ الذي خلّفتْه وتخلّفه المقاطعة، ولاسيّما في أوروبا والولايات المتّحدة. ولقد كتبنا أو نشرْنا الكثيرَ في هذا المجال، ولاسيّما في الآداب والأخبار، ويكفي أن نذكّر بأربعة إنجازاتٍ رئيسة:
1) صندوق التقاعد الهولنديّPGGM ، الذي تقدَّر استثماراتُه في الخارج بـ 200 مليار دولار، قرّر سنة 2014 سحبَ استثماراتِه من أبرز خمسةِ مصارف إسرائيليّة لتورّطها في تمويل الاستيطان الصهيونيّ (وكذلك فعل صندوقُ تقاعد الكنيسة الميثوديّة المتّحدة، إحدى أكبر الكنائس البروتستانتيّة في الولايات المتحدة).
2) منذ 7 أشهر حتى الآن، انسحبتْ شركاتٌ عالميّةٌ ضخمة مثل “فيوليا” و”أورانج” و”CRH” بالكامل من السوق الإسرائيليّة بعد خسائرَ كبيرة، جرّاء حملات مقاطعة BDS ضدّ كلٍّ منها.
3) أكثر من 30 جمعيّة طلّابيّة أميركيّة و11 جمعيّة طلّابيّة كنديّة صوّتتْ، منذ العام 2003، لصالح سحب الاستثمارات من شركاتٍ تستفيد من الانتهاكات الإسرائيليّة لحقوق الإنسان. وهناك عددٌ متزايدٌ من الجمعيّات الأكاديميّة الأمريكيّة انضمّت بالكامل إلى حركة BDS.
4) أكثر من 1000 فنّان وممثّل وكاتب وموسيقيّ من المملكة المتحدة دعموا نداءً أُطلق في شباط 2015 لمقاطعة إسرائيل ثقافيًّا وفنيًّا.
هذه الإنجازات، ومئاتٌ غيرُها، دفعتْ وكالة “موديز” للتصنيف الائتمانيّ إلى أن تتكهّن بأنّه سيكون لحركة BDS تأثيرٌ ملموسٌ على الاقتصاد الإسرائيليّ إذا استمرّت في صعودها ذاك.
لعلّ أكثرَ ما يغيظ الكيانَ الصهيونيّ أنّ حركة BDS العالميّة تصرّ على حقّ عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، وعلى الحقوق الأساسيّة لفلسطينيّي أراضي 48، وأنّها تفلح في الانتشار العالميّ رغم سطوة اللوبي الصهيونيّ. وخلافًا لما يظنّه بعضُنا في الوطن العربيّ، فإنّ حركةBDS لا تقتصرعلى “مجموعاتٍ هامشيّة في الغرب،” بل هي تقتربُ ـــ بخطًى ثابتةٍ وواثقة ـــ من أن تصبح جزءًا من الخطاب السائد هناك، وفي جنوب أفريقيا، وأمريكا اللاتينيّة، وغيرِها، وذلك على مستوى الجامعات ومجالسِ الطلبة والكنائسِ والفنّانين ونقاباتِ العمّال والبلديّات. وهذه المقاطعة العالميّة لا تكتفي بتكبيد “إسرائيل” خسائرَ اقتصاديّةً كبرى (بحسب تقريرٍ للأمم المتحدة، انخفضت “الاستثماراتُ العالميّةُ المباشرة” في إسرائيل 46 % سنة 2014 بالمقارنة مع العام 2013!)، بل تُلحق أبلغَ الأذى بـ “سمعتها،” إذ تَكْشف وجهَها الحقيقيَّ في وصفها نظامَ احتلالٍ واستعمارٍ استيطانيٍّ وفصلٍ عنصريّ (أبارتهايد). هكذا لم تعدْ إسرائيلُ قِبلة الفنّانين والأكاديميين العالميين، يهرولون إليها عند كلّ مناسبة، بل صار كثيرٌ منهم يَحْسبون ألفَ حسابٍ قبل المشاركة في أيّ نشاطٍ هناك، لأّنّهم سيُعتبرون داعمين للعنصريّة والاحتلال، أو متواطئين مع انتهاك إسرائيل للقانون الدوليّ نفسِه.
في خضمّ هذه الإنجازات يأتي مؤتمرُ القدس لمحاربة BDS ليُطْلق جرسَ الإنذار: أيّها الإسرائيليّون الغيارى على مصلحةِ أمّتكم، إنّ المقاطعة تهديدٌ وجوديٌّ لكم! رئيسُ تحرير يديعوت أحرونوت، رون يارون، حذّر المجتمعين من تصاعد قوّة BDS، وأعربَ عن خشيته من أن تصبح إسرائيل بعد 5 أو 10 سنوات شبهَ معزولةٍ أو منبوذة، شأنَ جنوب أفريقيا في زمن الأبارتهايد (الفصل العنصريّ).
الأخطر في المؤتمر أنّ كاتز، وزيرَ الاستخبارات، قال إنّ على الحكومة، وبمساعدةِ الاستخبارات، أن تنخرط في targeted civil eliminations. والحقّ أنّ هذا التعبير، ويعني حرفيًّا “الإلغاءات المدنيّة الموجّهة،” يرجِّع أصداءَ تعبيرٍ أشهرَ، استخدمتْه سلطاتُ الاحتلال والجيشُ الإسرائيليّ منذ عقديْن على الأقلّ في سياق اغتيال الفدائيين (أو “المخرّبين” و”الإرهابيين” بالاصطلاح الرسميّ الإسرائيليّ). وعليه، فإنّ الترجمة الأدقّ لتعبير كاتز، ضمن ذلك السياق الإسرائيليّ المعروف، إنّما هي “الاغتيالات المدنيّة الموجّهة،” بل لا تحتمل ترجمةً غيرَ هذه!
هذا، وقد أورد المتحدّثون في هذا المؤتمر المشؤوم اسمَ الرفيق عمر البرغوثي مرارًا وتكرارًا. وبعضُهم (كوزير الداخليّة آرييه ديري) شبّهه، فعلًا وبشكل مباشر، بـ “الإرهابيين.”
عُمر اتّصل بمنظّمة العفو الدوليّة، وبـ “المقرِّر الخاصّ للأمم المتّحدة بشأن وضع المدافعين عن حقوق الإنسان،” وبمنظّماتٍ وشخصيّاتٍ دوليّة أخرى. وأعلم الجميعَ ، بعد التشاور مع محاميه، أنّه يَعتبر هذه التهديدات خطرًا على سلامته الشخصيّة وعلى سلامةِ كلّ ناشطٍ مدنيٍّ في مجال المقاطعة والدفاعِ عن حقوقِ الإنسان وحريّةِ التعبير.
عُمر لن يتراجعَ عن نضاله على جبهة المقاطعة من أجل حريّة فلسطين والشعبِ الفلسطينيّ والعربيّ. حين تمنّيتُ عليه، من منطلقِ الأخوّة والصداقة الحميمة والعلاقةِ الرفاقيّةِ الطويلة (منذ أيّام وجودِنا في نيويورك منتصفَ الثمانينيّات من القرن الماضي)، أن “ينحنيَ مع الرّيح” موقّتًا، رَفَضَ بشدّة، وقال: “ما بيزبط الواحد يرْضَخ لضغوطهم. زيّ ما قال محمود درويش: حاصِرْ حصارَكَ لا مفرُّ!”
دولة إسرائيل اليوم تحاول أن تَخلق جوًّا متعاطفًا مع إرهابها (أو ما تسمّيه “دفاعها المشروع عن وجودها المهدَّد”)، وهو إرهابٌ أشْعُرُ (ويشْعُر عُمر) أنّه قد يطاوِل في الحقبة القادمة الناشطين المدنيّين ضدّ احتلالها وإجرامِها وعنصريّتها.
كلماتي هنا لن تبدّدَ هذا الجوّ. حسبُها أنّها قد توجِّه رسالةً إلى كلّ عربيٍّ ما يزال يستخفُّ بالمقاطعة وجدواها. وفحوى هذه الرسالة: إذا كانت “إسرائيل” تَعتبرُ المقاطعة خطرًا إستراتيجيًّا عليها، فإنّ كسرَ شوكة المقاطعة يعزّزٌ خطرَ “إسرائيل” الإستراتيجيَّ علينا… نحنُ العرب.
تحيّةً إلى الحبيب عمر البرغوثي، وإلى كلّ المقاومين، وإلى كلّ الناشطين في حملات مقاطعة “إسرائيل” في العالم.