مقالات

الأوراسية الجديدة والبريكس، وأفول العولمة أحادية القطبية

يعيش عالمنا اليوم مخاضاً خطيراً وضرورياً في نفس الوقت ، فقد مثلت الهيمنة الأمريكية خلال العقود الثلاث الماضية عبئاً ثقيلاً على البشرية بسبب النموذج الليبرالي الجديد الذي فرضته كمسار اقتصادي سياسي هيمن على الاقتصاد العالمي، تسبب في عالم أقل عدالة، وزيادة في معدلات الفقر والبطالة، وانتشار الحروب والموت لفرض السيطرة والسطوة الأمريكية ولأدواتها في دول الجنوب والشرق الغني بالموارد والثروات والأسواق، لكن، وفي مواجهة ذلك، وتحديداً في مواجهة ما يكثف المشهد الدولي، وما أطلق عليه العولمة أحادية القطبية، بدأت ارهاصات التمرد وتبلور البديل / البدائل لكسر حالة الهيمنة الأمريكية، والشروع في بناء نموذج متعدد القطبية أو المراكز، يعيد شيئاً من التوازن المفقود بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، ويكبح جماح شراسة وعدوانية تعامل الولايات المتحدة مع الدول والشعوب التي لا تسير في فلكها ولا تستسلم لفرض التبعية عليها.

العولمة المعاصرة

العولمة لغوياً: يشير د. جمال محمد أحمد في كتابه «الإعلام والتوجهات الدولية الراهنة» في تعريف لفظة العولمة أنها ترجمة للمصطلح الإنجليزي (Globalization) وبعضهم يترجمها بالكونية، وبعضهم يترجمه بالكوكبة، وبعضهم بالشوملة، إلا إنه وفي الآونة الأخيرة، أشتهر بين الباحثين مصطلح العولمة، وأصبح هو أكثر الترجمات شيوعاً بين أهل السياسة والاقتصاد والإعلام. وتحليل الكلمة بالمعنى اللغوي يعني تعميم الشيء وإكسابه الصبغة العالمية وتوسيع دائرته ليشمل العالم كله. يقول «عبد الصبور شاهين» عضو مجمع اللغة العربية» فأما العولمة مصدراً فقد جاءت توليداً من كلمة عالم ونفترض لها فعلاً هو عولم يعولم عولمة بطريقة التوليد القياسي، وأما صيغة الفَعللة التي تأتي منها العولمة فإنما تستعمل للتعبير عن مفهوم الأحداث والإضافة، وهي مماثلة في هذه الوظيفة لصيغة التفعيل».
العولمة اقتصادياً: يقول محمد الأطرش في بحثه «العرب والعولمة: ما العمل؟» في تعريف العولمة «تعني بشكل عام اندماج أسواق العالم في حقول التجارة والاستثمارات المباشرة، وانتقال الأموال والقوى العاملة والثقافات والتقانة ضمن إطار من رأسمالية حرية الأسواق، وتاليا خضوع العالم لقوى السوق العالمية، مما يؤدي إلى اختراق الحدود القومية وإلى الانحسار الكبير في سيادة الدولة، وأن العنصر الأساسي في هذه الظاهرة هي الشركات الرأسمالية الضخمة متخطية القوميات» بهذا التعريف للعولمة ركز على أن العولمة تكون في النواحي التجارية والاقتصادية التي تجاوزت حدود الدولة مما يتضمن زوال سيادة الدولة؛ حيث أن كل عامل من عوامل الإنتاج تقريباً ينتقل بدون جهد من إجراءات تصدير واستيراد أو حواجز جمركية ، فهي سوق عولمة واحدة لا أحد يسيطر عليها، كشبكة الإنترنت العالمية.
وعند صادق العظم، العولمة هي «حقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء في ظل هيمنة دول المركز وبقيادتها وتحت سيطرتها، وفي ظل سيادة نظام عالمي للتبادل غير المتكافئ».
العولمة بمنطوق الهيمنة الأمريكية: يقول محمد الجابري في تعريف العولمة من منطوق الهيمنة الأمريكية بأنها «العمل على تعميم نمط حضاري يخص بلداً بعينه، وهو الولايات المتحدة الأمريكية بالذات، على بلدان العالم أجمع». فبهذا التعريف، تكون العولمة دعوة إلى تبنى إيديولوجية معينة تعبر عن إرادة الهيمنة الأمريكية على العالم. ولعل المفكر الأمريكي « فرانسيس فوكوياما» صاحب كتاب «نهاية التاريخ» يعبر عن هذا الاتجاه، فهو يرى أن نهاية الحرب الباردة تمثل المحصلة النهائية للمعركة الإيديولوجية التي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، وهي الحقبة التي تم فيها هيمنة التكنولوجيا الأمريكية.
العولمة بمنطوق أنها ثورة تكنولوجية واجتماعية: يقول «جيمس روزناو» أحد منظري العولمة الرأسمالية الليبرالية في تعريف العولمة من منطوقه، أنها ثورة تكنولوجية واجتماعية «العولمة علاقة بين مستويات متعددة للتحليل؛ الاقتصاد، السياسة، الثقافة، الايديولوجيا، وتشمل إعادة تنظيم الإنتاج، تداخل الصناعات عبر الحدود، انتشار أسواق التمويل، وتماثل السلع المستهلكة لمختلف الدول، وتتقاطع أيضاً مع نتائج الصراع بين المجموعات المهاجرة والمجموعات المقيمة». وعرفها آخرون بأنها «الاتجاه المتنامي الذي يصبح به العالم نسبياً كرة اجتماعية بلا حدود، أي أن الحدود الجغرافية لا يعتبر بها حيث يصبح العالم أكثر اتصالاً مما يجعل الحياة الاجتماعية متداخلة بين الأمم»، فهو يرى أن العولمة شكل جديد من أشكال النشاط، فهي امتداد طبيعي لانسياب المعارف ويسر تداولها تم فيه الانتقال بشكل حاسم من الرأسمالية الصناعية إلى المفهوم ما بعد الصناعي للعلاقات الصناعية.
وتعريف آخر يقول بأنها «زيادة درجة الارتباط المتبادل بين المجتمعات الإنسانية من خلال عمليات انتقال السلع ورؤوس الأموال وتقنيات الإنتاج والأشخاص والمعلومات»، أما إسماعيل صبري فيعرفها قائلاً «هي التداخل الواضح لأمور الاقتصاد والسياسة والثقافة والسلوك دون اعتداد يذكر بالحدود السياسية للدول ذات السيادة أو انتماء إلى وطن محدد أو لدولة معينة ودون الحاجة إلى إجراءات حكومية». وهذه التعريفات تصب في فهم فوكوياما للعولمة التي يقول فيها «ما نشهده ليس مجرد نهاية الحرب الباردة، أو مرور فترة معينة من تاريخ ما بعد الحرب، ولكنها نهاية التاريخ على هذا النحو، هذه نقطة النهاية للتطور الايديولوجي للبشرية وبداية عولمة الديمقراطية الليبرالية كشكل نهائي للحكومة الانسانية».
لكن هناك أيضاً تعريفاً ماركسياً للعولمة، ولعله الأقدم والأكثر شمولية ووضوحاً، وهو ما يؤكد أن العولمة ليست ظاهرة حديثة، بل نشأت منذ ظهرت حاجة البرجوازية إلى التصريف الدائم لفائض الانتاج وحاجتها لاستعمال المواد الأولية المتوفرة لدى بلدان أخرى، ففي الفصل الأول من البيان الشيوعي بعنوان «برجوازيون وبروليتاريون» يقول البيان الشيوعي الذي صاغه ماركس وإنجلز «وحاجة البرجوازية إلى تصريف دائم لمنتجاتها، ساقها إلى كل أرجاء الكرة الأرضية. فلا بد لها من أن تُعشعش في كل مكان، وأن تنغرس في كل مكان، وأن تقيم علاقات في كل مكان. والبرجوازية، باستثمارها السوق العالمية، طبَّعت الإنتاج والإستهلاك، في جميع البلدان، بطابع كوسموبوليتي، وانتزعت من تحت أقدام الصناعة أرضيتها القومية وسط غم الرجعيين الشديد. فالصناعات القومية الهرمة دُمّرت وتدمَّـر يوميا لتحل محلها صناعات جديدة، أصبح اعتمادها مسألة حيوية بالنسبة إلى جميع الأمم المتحضرة، صناعات لم تعد تستعمل المواد الأولية المحلية، بل المواد الأولية من أقصى المناطق، صناعات لا تُستهلك منتجاتها في البلد نفسه فحسب، بل أيضا في جميع أنحاء العالم. فمكان الحاجات القديمة، التي كانت المنتجات المحلية تسدُّها، تحُل حاجات جديدة تتطلب لإشباعها منتَجات أقصى البلدان والأقاليم. ومحل الإكتفاء الذاتي الإقليمي والقومي والإنعزال القديم، تقوم علاقات شاملة في كل النواحي، وتقوم تبعية متبادلة شاملة بين الأمم. وما ينطبق على الإنتاج المادي ينطبق أيضا على النتاج الفكري. فالنتاجات الفكرية لكل أمة على حدة تصبح ملكا مشتركا. والتعصب والتقوقع القوميّان يُصبحان مستحيلين أكثر فأكثر. ومن الآداب القومية والإقليمية ينشأ أدب عالميّ. وميزة هذا التعريف أنه يوضح المضمون الطبقي للعولمة المعاصرة التي شكلت الليبرالية الجديدة في العقود الأخيرة سمتها الرئيسية.

الأوراسية

أوراسيا جغرافياً: هي كتلة أرضية مساحتها حوالي 54 مليون كم2 وهي مكونة من قارتي أوروبا وآسيا. تشكلت أوراسيا قبل حوالي 350 مليون سنة بعد اندماج القارات: سيبيريا وكازاخستانيا وبلطيقا، والتي اندمجت مع لورينتيا التي تمثل الآن أمريكا الشمالية لتشكل أورأمريكا.
تقع أوراسيا في شمال الكرة الأرضية، واسم الكتلة مركب من كلمتي «أوروبا» و «آسيا». اعتبرها العديد من الجغرافيين كقارة واحدة، مثل الأمريكيتين وأفريقيا، حيث أن القارتين (أوروبا وآسيا) غير منفصلتان بمحيط أو بحر كبير. وكان أن قسم الإغريق العالم إلى ثلاث مناطق: آسيا وأوروبا وأفريقيا، وهذا الاستخدام لا يزال سائداً حتى الآن.
يوجد أيضاً تقسيم آخر، هو أوراسيا الشرقية وأوراسيا الغربية. تمثل أوراسيا الغربية أوروبا والشرق الأوسط، كما يضيف إليهما البعض شمال أفريقيا، لكون المنطقة منفصلة عن بقية أفريقيا بواسطة بواسطة الصحراء الكبرى، وتمثل أوراسيا الشرقية بقية آسيا عدا منطقة الشرق الأوسط .
الأوراسية كاتجاه فكري سياسي: ظهرت بداية القرن العشرين في مجتمع المهاجرين الروس، فِكرتها أن الحضارة الروسية في تشكلها نَهَلَتْ من المكونات والعناصر الآسيوية وكذلك من الأوروبية، لكنها ليست أسيوية خالصة وليست أوروبية خالصة، إنما هي هوية قومية جديدة مميزة بحد ذاتها، تستمد عناصرها من التأثير والتأثر المباشر مع آسيا وأوروبا، ويضاف لها الأرثوذكسية المحافظة، وتندرج تحت مفهوم «أوراسيا» الجيوسياسي. كانت الأوراسية تصنف اتجاهاً فكرياً برجوازياً بعد انتصار الثورة البلشفية، لكنها لم تدخل في صراع مع الأخيرة، بل أنها كانت ترى في تَشكُل الاتحاد السوفياتي خطوة أساسية على طريق بلورة الهوية القومية الجديدة التي تعكس الطابع الفريد للوضع الروسي الجيوسياسي.

ثالثاً: البريكس

تكتل «البريكس» أو مجموعة البريكس BRICS، هي منظمة تأسست بعد انعقاد أول اجتماع لها على مستوى الوزراء في تشرين ثاني 2006، والقمة الأولى في حزيران 2009، وتتكون من 5 دول، واسمها «البريكس» مصدره اختصارٌ من الحروف الأولى اللاتينية للدول المكونة للمجموعة، وهي على التوالي؛ البرازيل، روسيا، الهند، الصين وجنوب إفريقيا. وقد أسست هذه الدول هذا التكتل لتعزيز التعاون الإقتصادي والسياسي والثقافي فيما بينها لتحقيق مصالحها المشتركة، وأبرزها تشكيل نظام اقتصادي متعدد الأقطاب، حيث تشكل مساحة دولها مجتمعة ربع مساحة اليابسة، وتعداد سكانها 3.2 مليار نسمة، ما يعادل 42% من سكان الأرض.

نهاية الحرب العالمية الثانية وإرساء أسس مرحلة العولمة

مع نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة النازية وانتصار الحلفاء، أصبح العالم أمام توازن قوى جديد، وبرغم أن العبئ الأكبر والدور الحاسم في هزيمة النازية وحسم نتائج الحرب وقع على كاهل الاتحاد السوفياتي، الذي قدم 27 ميلون من أصل 50 مليون فقدوا حياتهم جراءها، إلا أن الولايات المتحدة خرجت من هذه الحرب بميزات ومكاسب تفضيلية، فلم تعاني من دمار بنيتها التحتية، ولم تتحمل خسائر بشرية تذكر مقارنة بأوروبا، وحافظت على اقتصادها قوياً متعافياً في أوج قدرته الانتاجية، وحتى تستثمر الولايات المتحدة نتائج الحرب بما يعزز نفوذها في حقبة ما بعد الحرب، كان لا بد لها من إعادة صياغة العلاقات الدولية بين الدول المنتصرة من جهة، وباقي دول العالم من جهة أخرى، بما يضمن لها سطوة النفوذ والسيطرة، فكانت الدعوة إلى اجتماع مندوبين من 44 دولة، في شهر تموز 1944 في بريتون وودز – نيو هامبشاير، في الولايات المتحدة الأمريكية، لصياغة نموذج جديد للعلاقات التجارية والمالية بين تلك القوى – الدول. وكان من أهم نتائج بريتون وودز «تثبيت أسعار صرف العملات» من خلال نظام نقدي جديد على أساس «قاعدة الصرف بالدولار الذهبي»، و»على كل دولة عضو فيه أن تحدد قيمة تبادل عملتها الوطنية بالنسبة إلى الذهب أو بدولار الولايات المتحدة، على أساس الوزن والعيار النافذين في الأول من حزيران 1944، وقد التزمت الولايات المتحدة أمام المصارف المركزية للدول الأعضاء بتبديل حيازتها من الدولارات الورقية بالذهب وعلى أساس سعر محدد وثابت وهو 35 دولاراً للأونصة الواحدة، وبذلك تساوى الدولار بالذهب في السيولة والقبول العام به احتياطياً دولياً»، إضافة الى ذلك كان من مقررات «بريتون وودز» إنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومقرهما واشنطن، وهما الأداتان الرئيسيتان لتكريس الهيمنة الأمريكية على النظام الاقتصادي العالمي.

ظهور ثنائية القطبية وأفولها

كان الاتحاد السوفياتي أكبر المنتصرين عسكرياً في الحرب العالمية الثانية، وقد شارك مندوبه في مؤتمر «بريتون وودز»، إلا أنه لم يوافق على مقرراتها ولم يوقع ليكون طرفاً في الاتفاقية الصادرة عنها، لأن قيادة الإتحاد السوفياتي أدركت أن هذه الاتفاقية ستكرس الهيمنة الأمريكية في المرحلة اللاحقة.
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، عقدت ثلاث مؤتمرات بين الحلفاء؛ «مؤتمر طهران» 1943، و»مؤتمر يالطا» قبيل انتهاء الحرب العالمية بثلاث أشهر، و»مؤتمر بوتسدام» بُعَيدَ استسلام ألمانيا النازية بعدة أسابيع (تموز 1945)، وبموجب هذه المؤتمرات الثلاث ومخرجاتها، تم تقاسم مناطق النفوذ في العالم بين الحلفاء المنتصرون في الحرب، لكن في نفس الوقت الذي قسمت فيه مناطق النفوذ وحدود السيطرة، فقد أُسِسَ لبداية ما عرف لاحقاً بالحرب الباردة، وكانت هذه الحرب أحد مظاهر ثنائية القطبية بين الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية والمعسكر الرأسمالي من جهة ثانية، والتي استمرت حتى انهيار الاتحاد السوفياتي وأوروبا الإشتراكية آواخر ثمانينيات القرن الماضي، تلتها حقبة التسعينيات التي جاءت بالعولمة أحادية القطبية وطابعها الرئيسي هيمنة الولايات المتحدة على العالم وغياب أي قطب اقتصادي – سياسي مقابل لها.

مقدمات تعددية القطبية ونهاية أحادية القطبية

أحادية القطبية الأمريكية لم تستمر على حالتها، إذ بدأت تظهر مقدمات تنبئ بضعفها وسيرورتها للتراجع التدريجي في النفوذ والسيطرة، فمؤسسات وأدوات الهيمنة والنفوذ الاقتصادي للولايات المتحدة الأمريكية – صندوق النقد الدولي والبنك الدولي – واصلت إعادة إنتاج نفس مخططات وسياسات الهيمنة، من أجل المنفعة والنفوذ الحصري لرأس المال الكبير المتراكم بين يدي الدول الرأسمالية الغربية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحد الأمريكية. وقد وجدت الدول الناشئة في آسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا، التي بدأت بتحقيق معدلات نمو اقتصادي متزايدة وصل في مجموعه إلى ما نسبته 50٪ من النمو العالمي مع نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فهي لم تعد قادرة على انتظار إصلاح هذه المنظمات (صندوق النقد والبنك الدوليين)، وتحقيق العدالة. لذلك كان لقاء زعماء الدول التي كانت تحقق أسرع نمو اقتصادي في العالم؛ البرازيل وروسيا، والصين والهند في عام 2008، وفي العام التالي 2009، عُقدت قمة أفضت إلى تأسيس مسار مقابل لهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية، ولاحقاً، في العام 2010 التحقت جنوب أفريقيا بالمجموعة لتعطي بعداً جديداً، ليس فقط كقوى اقتصادية صاعدة تحقق نمواً في ظل تداعيات أزمة 2008، بل امتداداً لرؤية جديدة ناشئة مثلت تفاهماً وتعاوناً بين دول الجنوب والشرق، وأطلق هلى هذا التجمع الصاعد الجديد «مجموعة دول بريكس» BRICS والمستمد من الحروف الأولى للدول المشاركة، وعملت هذه المجموعة على تأسيس بنك للتنمية برأسمال 100 مليار دولار، لتعزيز التعاون بين بلدان المجموعة، ويكمل في نفس الوقت جهود المؤسسات المالية المتعددة الأطراف والإقليمية من أجل التنمية العالمية، مما يساهم بتعزيز التزاماتها الجماعية في تحقيق هدف النمو القوي والمستدام، والحيلولة دون الهيمنة من قبل قوة واحدة مثل الولايات المتحدة على التمويل وفرض شروطها، والتخلص من المضاربات والابتزاز المالي، التي مثلت السمة الرئيسية لليبرالية الجديدة ودواتها المستحدثة لتكريس الاستعمار الجديد، والتي ألقت بظلالها طوال عقود على تعاملات الإقراض من قبل الصندوق والبنك الدوليين. لذلك ظهرت الحاجة الموضوعية لبديل تكتلي جيوسياسي قادر اقتصادياً ومالياً على كسر الهيمنة وأحادية القطبية وتسريع تنمية الاقتصادات الصاعدة ودول العالم النامية، دون أن يكون الهدف منها افتعال الصراع مع المؤسسات القائمة، بل بتقديم البديل الممكن، والأكثر عدالة، الذي يسمح بتحقيق تنمية دون تبعية مشروطة كما هي سياسات صندوق النقد والبنك الدوليان.
مع نهاية العقد الأول من القرن الحالي كانت دول البريكس حققت ما بنسبته 21.1٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، أي ما يعادل حوالي 15.8 تريليون دولار، وأكثر من 50% من نسبة النمو الاقتصادي العالمي.

انبعاث فكرة الأوراسية

لقد غابت الأوراسية كفكرة وحركة حتى حقبة الثمانينات، عندما أعاد «ألكساندر دوغين» منظرها الرئيسي، الحياة لهذه الفكرة الروسية في عقد الثمانينات من القرن الماضي، ولكن بقيت الفكرة محدودة النفوذ، ولم تجد صدىً يذكر، إلى أن حانت اللحظة التاريخية لنهوضها، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومجيء حقبة يلتسين الليبرالية التابعة للمركز الرأسمالي الأمريكي، وهو ما عارضته الفكرة الأوراسية، التي ترى أن روسيا تمتلك كل مقومات بناء الدولة القومية، استناداً للوضع الروسي الجيوسياسي، باستقلالية عن الهيمنة الأوروبية والأمريكية. كانت الفكرة موجودة لدى نخب وبنية المؤسسة العسكرية الروسية وهي التي خرج منها بوتين، وهو الذي وجد في فكرة الأوراسية مخرجاً لروسيا من حالة التراجع والانهيار، فشكلت فكرة «الأوراسية»، وهي بمثابة أيديولوجيا وحركة فكرية، فيها كافة العناصر الضرورية لبناء روسيا من جديد، وفعلاً نجح بوتين في إعادة البناء، وإعادة الإعتبار لقوة الدولة والأمة الروسية ولدورها الجيوسياسي عالمياً.
بعد ثلاث عقود على قيادة بوتين لروسيا الإتحادية تحولت الفكرة – الحركة الأوراسية إلى واقع مادي ملموس، وقد مثل كتاب « الجغرافيا السياسية» لألكسندر دوغين المرجعية النظرية الأهم في استراتيجية بوتين لإعادة بناء روسيا واستعادة قوتها ودورها وكذلك انفتاحها على فكرة أوراسيا الكبرى.

الأوراسية الجديدة-أوراسيا الكبرى، استراتيجية جديدة نحو عالم متعدد الأقطاب

بالعودة للمفهوم الجغرافي لأوراسيا، وشمول هذا المفهوم لقارتي آسيا وأوروبا، وتبلور مجموعة من الدول الصاعدة اقتصادياً وبشكل رئيسي الصين والهند في آسيا، تحولت فكرة أوراسيا الكبرى (التي تضم روسيا والقطب الثاني الذي تمثله الصين، والسعي لتكون الهند قطباً ثالثاً فيه) بالنسبة لروسيا إلى المسار والمخرج لتحقيق العمق الجيوسياسي الحيوي الأهم، وهذا التوجه الاستراتيجي يعيد الاعتبار لما يعرف بقوة اليابسة (أوراسيا) في مواجهة قوة البحر (بريطانيا والولايات المتحدة)، وبموجب فكرة الأوراسية فإن قوة اليابسة تمتلك عناصر تمكنها من الوقوف نداً متفوقاً في مواجهة قوة البحر، وتعزيز ذلك بالضرورة يفرض عليها تكريس وصولها إلى ووجودها في المياه الدافئة، وقلبها سوريا.هذه الاستراتيجية الجديدة الآخذة في التبلور والترسخ تتماشى مع التطوير النظري الذي قدمه «ألكساندر دوغين» بتعريفه للحركة – الفكرة الأوراسية، بأنها ليست محصورة بالأيديولوجية الأوراسية الأورثوذكسية المحافظة، بل هي شاملة وغير حصرية وغير قومية وغير عرقية، وتقوم على التنوع العرقي الثقافي الحضاري والتلاقح الذي يُغني دون أن يلغي طرفٌ الطرفَ الآخر، وهذا التحول يستوعب شراكة قوى صاعدة في جغرافيا خارج أوراسيا، ما يعطي بعداً عالمياً للفكرة.
أوراسيا الكبرى / العظمى بقطبيها موسكو وبكين ستمكن أقطاباً أخرى من الوجود في القارات الخمس، أي أنها ستفرض شكلاً جديداً من التوازن في العلاقات الدولية تنهي حقبة القطب الواحد المهيمن الذي يفرض شروطه السياسية والاقتصادية على حساب الحلقات الأضعف.
أي أن هذا التكامل والتعاون بين القطبين ضمن أوراسيا الكبرى سيشكل الأساس لعالم متعدد الأقطاب والمراكز وأفول العولمة الليبرالية أحادية القطبية.
من الأدوات الرئيسية لتحقيق هذا المشروع انشاء منطقة شرق آسيا للتجارة الحرة ومنظمة شنغهاي للتعاون و التحول لاستبدال الدولار الأمريكي بالعملات المحلية / الوطنية للتبادل التجاري.
اوراسيا الجغرافية، التي تشكل كتلة يابسة واحدة ممتدة من البرتغال على المحيط الأطلسي وحتى أقصى سيبيريا، تتميز بسهولة ربطها براً بالسكك الحديدية قليلة التكلفة للنقل والتجارة والتزود بمصادر الطاقة غير المتجددة الوفيرة من نفط وغاز، وما تشكله من سوق ضخمة، وامتلاكها للتكنولوجيا و know how، واستناد كل ذلك إلى البعد الحضاري الغني والمتنوع (مهد الحضارات الشرقية العريقة) وجوارها القوى كاليابان واندونيسا والفلبين وكوريا وحتى استراليا، ما يعزز المسار نحو عالم متعدد الأقطاب والمراكز.
هذ المشهد قيد التشكل بكل عناصره وعوامله الفاعلة وصل إلى مرحلة اللاعودة في سياق أفول العولمة أحادية القطبية ونهاية العولمة الأمريكية الليبرالية الجديدة، وهذا ما تخشاه القيادة السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية، والذي أصبح هماً ومصدراً لقلقٍ متنامٍ في ظل تراجع فعلي وملموس في النفوذ والسطوة الأمريكية في العالم.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى