مقالات

الأسد وقيصر… صراع له جذور

شكلت سوريا التاريخية مركزاً مبكراً لمقاومة الإحتلالات بكل أشكالها، العثمانية الإقطاعية ثم الأوروبية والأمريكية الإستعمارية وقدمت العناوين الأولى للنهضة والمقاومة، ومن كل الاتجاهات السياسية مع الفكرية المناهضة للغرب الرأسمالي.


ويعرف الباحثون أيضاً،أن جانباً مهماً من ثقافة التنوير التي شهدتها مصر في القرن التاسع عشر، يعود لمثقفي بلاد الشام الهاربين من البطش والتخلف العثماني إلى القاهرة منذ نجاح الجيش المصري فترة محمد علي الكبير، بالحاق هزائم كبيرة بالجيش العثماني ودخول أنقرة مع الإقتراب من اسنطبول، قبل التراجع المصري تحت ضغط الأساطيل الإنجليزية والأوروبية التي قايضت خروج مصر من تركيا وبلاد الشام بوقف الحملات الإستعمارية وتهديداتها باحتلال الإسكندرية.
وقد توزع المثقفون الشوام (سوريا الطبيعية) في مصر على حقول الصحافة والآداب والفكر والفنون وبرز منهم مؤسسوا جريدة ومؤسسة الأهرام والهلال (تقلا وجورجي زيدان)، وكذلك مجلة ومؤسسة روز اليوسفي، وأدباء ومفكرون كبار مثل المسرحي جورج أبيض والشاعر خليل مطران والشاعر فؤاد حداد والأديبة مي زيادة، والمفكرون يوسف كرم وأديب اسحق وفرح أنطوان.
بيد أن السمة الأهم للمثقفين الشوام (سوريا الطبيعية) كانت النزعة العروبية التي لم تكن بعيدة عن التأثيرات القومية التصاعدية في البلقان وخاصة ألبانيا واليونان وقد انعكست هذه السمة في إنشاء عشرات الصحف والمطابع والمنتديات، وفي نشوء العديد من التيارات الفكرية وتجلياتها اللاحقة القوميون العرب،البعث، القوميون السوريون، اليسار الشيوعي والاشتراكي، وأحزاب مثل حزب الاستقلال، الذي قاد المعارضة ضد الاحتلال العثماني، بأوهام التحالف مع الإستعمار الأوروبي وأسس دولة سورية موحدة لكل بلدان (سوريا، فلسطين، الأردن، لبنان) قبل أن يسقطها الإستعماريون سياسياً (عبر سايكس بيكو) وعسكرياً في معركة ميسلون التي تصادف مئويتها في (تموز 1920).
وبالرغم من الإنتكاسات التي تعرضت لها الحركة الوطنية في بلاد الشام إلا أنها ظلت تنهض في كل مرة، سواء في سوريا نفسها (الثورات السورية المتتالية ضد الإستعمار الفرنسي) في فلسطين التي تدفق إليها الآف الوطنيين من كل الربوع السورية ومنها القادة الشهداء سعيد العاص المقرب من أنطون سعادة والشيخ عز الدين القسام والضابط الأردني محمد الحنيطي قائد معركة حيفا بالإضافة للقادة والوطنيين الفلسطينيين.
وقد انعكس كل ذلك في موجات الكفاح الوطني والقومي والتقدمي المتلاحقة في خمسينيات وستينيات القرن العشرين وخاصة ضد الأحلاف الإستعمارية الأوروبية والأمريكية وأذرعها الصهيونية والرجعية التركية الأطلسية.
وكانت سوريا في قلب هذه الموجات مما جعلها هدفاً دائماً للمستعمرين والصهاينة مع الرجعيين عرباً وأتراكاً، وليس بلا معنى هنا أن يتزامن تمزيق سوريا إلى كيانات سياسية متناثرة مع إقامة الكيان الصهيوني في فلسطين من سوريا الجنوبية مع سلخ لواء الإسكندرون ومناطق سورية أخرى والحاقها بتركيا.
كما ظلت سوريا هدفاً مباشراً ومشتركاً للعدو الصهيوني وتركيا الأطلسية وخاصة أعوام (1956) و (1957) عندما تزامنت الإعتداءات الصهيونية عليها مع بدايات الإنبعاث العثماني على يد حكومة عدنان مندريس المتأسلمة التي تبنت الحلف الإستعماري المعروف بحلف بغداد، وأطلقت يد الإمبريالية الأمريكية فيها عبر العديد من القواعد العسكرية، مثل، أنجرليك، كما عبر الإنقلاب على دولة القطاع العام التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك وفترة تركيا أمام البنك الدولي واملائته، ومن مفارقات عهد مندريس المتأسلم في خمسينيات القرن العشرين ضد سوريا التي كررها أردوغان رعاية مجموعة عسكرية سرية للسيطرة باسم الجيش الحر (1956) والتحريض ضد نظام الرئيس شكري القوتلي ( البنى البرجوازية الوطنية الشامية السنية).
وكما هو معروف انتهى عهد مندريس بانقلاب عسكري نفذ فيه حكم الإعدام وكان لصمود سوريا والوحدة مع مصر عبدالناصر تأثيرات كبيرة في هذه التطورات.
لكن التحالف الإستعماري الصهيوني الرجعي وأعوانه في سوريا لم يتوقف عن التآمر على سوريا وعلى الوحدة كما على الرافعة التاريخية لها وللأمة (المشروع الناصري) المدعوم من الإتحاد السوفياتي وقوى التحرر، وكان أخطر ما تعرضت له سوريا والناصرية هو عدوان حزيران (1967) الذي نفذه العدو الصهيوني بدعم أمريكي وتواطؤ الرجعية العربية.
ومع نهضة سوريا من آثار هذا العدوان ودعم خط القتال والمقاومة الفلسطينية أصبح استهدافها أكثر شراسة مع غياب عبدالناصر والإنقلاب الساداتي في مصر وصولاً إلى كامب ديفد، مما ضاعف التهديدات ضد سوريا والمقاومة وحركة التحرر العربي في كل مكان فجرب التحالف الأسود حظه مرة أخرى في حزيران آخر (1982) حيث استهدف سوريا والمقاومة والحركة الوطنية مقدمة لتوقيع اتفاق محلي من تداعيات كامب ديفد هو اتفاق (17 أيار) ترافق مع اطلاق التحالف الأسود، الأمريكي الصهيوني الرجعي أكبر حملة إرهابية دموية داخل سوريا نفسها ابتداءً من مجزرة حلب (1979) وانتهاء بمئات العمليات الإرهابية الإجرامية في كل الأراضي السورية، ومن المؤسف أن كل ذلك ترافق أيضاً بإزاحة التناقض الرئيسي مع العدو الصهيوني نحو جهة شرقية تحت عنوان الحرب العراقية الإيرانية التي وصفت بحرب ديك تشين وكان هدفها المرسوم في المطابخ الأمريكية الصهيونية والرجعية النفطية التي مولت التغطية على استنزاف سوريا خدمة لاتفاقيات كامب ديفد ومناخاتها.
لكن سوريا وتحالفاتها من قوى المقاومة والمتحالفة في الإقليم والوطن العربي والعالم (الاتحاد السوفياتي) تمكنت من امتصاص هذه الحملة والمبادرة إلى الهجوم واسقاط اتفاق (17 أيار) الكتائبي الصهيوني.
وقد لعبت القيادة السوفياتية آنذاك ممثلة بالرئيس (أندروبوف) دوراً معروفاً في ذلك يذكر بالدور الذي لعبه الرئيس بوتين إلى جانب سوريا في السنوات الأخيرة.
في المحطة التالية من تاريخ التآمر على سوريا تلقت دمشق بعد العدوان الأطلسي على العراق (2003) تهديدات أمريكية بنكهة صهيونية رجعية من أخطرها:
1- وقف دعم المقاومة العراقية وإغلاق الحدود السورية أمامها وإغلاق مكاتب المقاومة الفلسطينية.
2- إعادة هيكلة الدولة والجيش وأشكال من الخصخصة وتحجيم الجيش السوري.
3- فدرلة الدولة على طريقة دستور بريمر الذي وضعه مستشاره القانوني اليهودي الأمريكي، نوح فيلدمان بعد احتلال العراق كصيغة لكل بلدان المنطقة وخاصة سوريا.
(تقسيم سوريا كما العراق إلى مكونات حسب المذاهب مع الحديث عن الأكراد كقومية)، وتحويل سوريا إلى دولة ثنائية القومية وتغيير العلم السوري الذي يرمز إلى الوحدة مع مصر إلى العلم الذي ظل سائداً من سنوات الإنتداب الفرنسي حتى عام الوحدة مع مصر، ويرمز إلى تشكيلات طائفية (علم أوساط من المعارضة السورية)، وعندما أخذت سوريا الموقف المتوقع منها وهو رفض هذه الإملاءات شرعت الإمبريالية الأمريكية بترجمة تهديداتها ومنها قانون محاسبة سوريا
(2003) الذي لا يختلف كثيراً عن قانون قيصر (2020).
كما بدأت بالعمل ضد سوريا من الخاصرة اللبنانية ومنها المظاهرات المعروفة التي دعت إلى انسحاب سوريا من لبنان، وتبين أنها من تدبير فيلتمان وجماعاته اللبنانية التي تذكر بالجماعات التي دعت إلى المظاهرات الأخيرة في بيروت بالتزامن مع الإعلان عن قانون قيصر.
وقد أظهرت المظاهرات الأخيرة أيضاً دور القوة (غير المرئية) نفسها الي دعت لانسحاب سوريا ومنها شركة الاعلانات البريطانية اليهودية المتخصصة في إثارة مثل هذه المظاهرات وهي شركة ساتشي آند ساتشي وبالإضافة لجماعات الأوتبور وكانفاس وغيرها. ومن المستهجن في مسألة العقوبات الأمريكية والتعاطي معها أن قوى متضررة منها،تماشي هذه العقوبات وتتورط فيها وتغطي عليها وتساهم في حصار سوريا مثل البرجوازية اللبنانية مع أوساط أردنية تشبهها حيث خسرت هذه البرجوازية والأوساط الكثير من مصالحها جراء تقطيع شرايين حركتها التجارية عبر الأراضي السورية ناهيك بالسوق السوري نفسه.
والخطير في هذا الموضوع أن هذا التواطؤ يصب في خدمة التحضير الصهيوني لميناء حيفا الفلسطيني المحتل ليكون بديلاً عن الأراضي السورية اللبنانية معاً.
أخيراً وبالرغم مما سبق فإن التجربة السورية في مقاومة كل أشكال الحصار والإبتزاز كفيلة بهزيمة الحصار الأخير وتعليم الأمريكان وأدواتهم درساً آخر حول قيمة قد لا يفهمونها وهي قيمة الشرف والكرامة الوطنية وبما يذكرنا برسالة زعيم الأمة إلى السفارة الأمريكية جمال عبدالناصر في القاهرة بعد نجاح ثورة الضباط في يوليو (1952) والإحاطة بالتحالف الحاكم من رأسمالية تابعة ورواسب الإقطاع في بلاط فاروق.
فقد إعتاد سفراء الإمبريالية الأمريكية بعد كل انقلاب عسكري أو تغيير في أمريكا اللاتينية أن يزوروا الزعيم الجديد ويمدوا أقدامهم في وجهه وعندما طلب سفيرهم لقاءً مع عبدالناصر أرسل مندوباً عنه محذراً السفير من مد قدمه في وجهه قائلاً له «إذا أردت أن لا تعود بقدم واحدة عليك احترام ثورة عنوانها الكرامة»….

بواسطة
د.موفق محادين
اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى