مقالات
الأحزاب في الأردن.. واقع وتحديات
قراءة متأنية، من موقع المشاركة في العمل الحزبي الأردني بعد مرور 30 عاما على ترخيصه
في سعيه لتأكيد شرعيته السياسية، وتحقيق شكل أرقى من المشاركة الشعبية، نص الدستور الاردني لعام 1952 على قوانين منظمة للحياة السياسية، وأكد على حق المواطنين الأردنيين في ممارسة العمل العام، والعمل النقابي، والعمل الحزبي، وحرية التعبير، كما حددت المادة الاولى في الدستور هوية النظام السياسي؛ بانه نيابي ملكي وراثي.
وقد أسهمت وحدة الضفتين في العام 1950 في إتساع وتطور النشاط السياسي والحزبي لسكان الضفتين، حيث تلاقت معظم الانشطة السياسية على القضايا القومية وقضية فلسطين.
وقد كانت حكومة سليمان النابلسي أول حكومة حزبية قامت على أساس إنتخابات نيابية ذات مصداقية وتمثيل سياسي واضح، وإثناء فترة ولايتها تم إلغاء المعاهدة الأردنية البريطانية، ولكن حُلّت هذه الحكومة بعد أقل من ستة أشهر من تأسيسها.
إعلان الأحكام العرفية، وحظر النشاط السياسي والحزبي.
تبع ذلك إعلان الأحكام العرفية في الأردن، وتشكيل حكومة عسكرية، فحُلت الأحزاب السياسية، وُحظر النشاط الحزبي والسياسي، حتى نهاية تشرين الثاني 1958.
عاشت البلاد في حالة قانون طوارئ منذ نكسة حزيران 1967، ثم إعلان الأحكام العرفية للمرة الثانية في العام 1970، وتشكلت حكومة عسكرية، وتم تعيين حكاما عسكريين في كل محافظات المملكة، وجرى تجميد العمل الحزبي بفعل قوانين الأحكام العرفية التي سادت لحوالي عقدين، حُظر خلالها النشاط السياسي، وتحولت الأحزاب التي كانت متواجدة، إلى صيغ متفاوتة من العمل السري، والعمل عبر الواجهات النقابية العمالية والمهنية وبعض مؤسسات المجتمع المدني، ولم يعفها ذلك من الملاحقات الأمنية والتنكيل، وأستعيض عن البرلمانات المنتخبة، بـ”مجالس تشريعية معينة” حتى العام 1986. وقد تخلل هذه الفترة إعلان العاهل الأردني، في منتصف عام 1988، قرار فك الإرتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية.
هبة نيسان، وصدور الميثاق الوطني، ورسم أولى خطوات الحياة الديمقراطية.
وهكذا جُمدت الحياة الحزبية والنيابية، حتى قيام هبة نيسان عام 1989، التي تمثلت بإحتجاجات ومظاهرات غاضبة، إنطلقت من معان في جنوب الأردن لتمتد إلى معظم مناطق المملكة، بدأت بالإحتجاج على قرار رفع أسعار الخبز وإنهيار صرف الدينار، وسرعان ما تطورت إلى المطالبة بالحريات العامة وإسقاط الحكومة، وبقانون أحزاب للبلاد، بعد أن واجهت الهبة، قمع الأجهزة العنيف، وقد أفضت المظاهرات العارمة، إلى إقالة حكومة زيد الرفاعي، وتشكيل حكومة جديدة برآسة زيد بن شاكر، وإجراء إنتخابات برلمانية وتشريع العمل الحزبي وإلغاء قانون الطوارئ.
منذ عودة إرهاصات الحياة الديمقراطية في عام 1989، وصدور الميثاق الوطني في العام 1991، انتعشت الاحزاب الأيدلوجية القديمة ذات التوجهات القومية واليسارية والأممية والدينية، بعد أن كان معظمها ممنوع عن العمل العلني بفعل الاحكام العرفية، (ما عدا جماعة الاخوان المسلمين حيث كان مصرحا لها بالنشاط العلني طوال فترة الحظر) .
في واقع الأمر فقد خلقت هبة نيسان، وما تبعها من تطورات، منعطفا سياسيا، ودينامية نشطة، أدت إلى مشاركة الأحزاب المتواجدة في الإنتخابات البرلمانية للمجلس الحادي عشر، والأول بعيد إنهاء الأحكام العرفية، وبالرغم من حداثة التجربة الديمقراطية، فقد وصل أعضاء أحزاب وشخصيات وطنية عامة ومستقلين بشكل ملحوظ الى البرلمان، حيث تنوعت القوى السياسية فيه، بين الاسلاميين والقوميين واليساريين والوسطيين والمستقلين.
نجح البرلمان الحادي عشر، وحكومة طاهر المصري في صياغة وإقرار قوانين إلغاء الاحكام العرفية، واطلاق الحريات العامة، وإصدار قوانين الصحافة والمطبوعات والاحزاب. وأشاعة أجواء إيجابية في الدفع نحو المشاركة في الحياة العامة، والتصدي للفساد المستفحل، والتأثير في القرار السياسي.
وقد عزز من أجواء الإنفراج الديمقراطي، طرح الميثاق الوطني، كإطار جامع، ومرجعية فكرية للمجتمع وقواه المنظمة، تعظيما لدور المواطن والأحزاب، وصولا الى تكريس مفهوم الدولة المدنية والحياة البرلمانية، تلك الحقبة التي عاصرت حرب الخليج الثانية، شهدت بروز صيغة التجمع القومي الديمقراطي، كإطار تشاركي يمثل مروحة سياسية حزبية عريضة، تضم قوى قومية ويسارية ووطنية ومحافظة، شارك أعضاؤه في حكومتين متتاليتين، وظهر كمنافس للحركة الإسلامية التي سيطرت على المشهد السياسي لثلاثة عقود متتابعة، تبع تلك الحقبة، حالة من النمو الأفقي والعامودي للنشاط الحزبي، وتوسعا في عدد الأحزاب، وإندماج أخرى.
وقد شهدت هذه الحقبة إنجاز عدد من الملفات الحيوية الهامة على أكثر من صعيد.
لم تؤثر حرب الخليج الثانية على تماسك المجتمع الأردني، مع تزايد النشاط السياسي المجتمعي والحضور الفاعل للأحزاب، نظرا لإنسجام المشهد السياسي الرسمي والشعبي، وتبلور رؤية معلنة متوافق عليها لدعم العراق ونظامه، ورفض الحصار والعدوان الجائر ضد الشعب العراقي.. بينما شهدت مفاعيل ما سمي ب”مسيرة السلام”وما تبعها من توقيع معاهدة وادي عربة، حالة من الشك، والرفض الجماهيري لأي تقارب مع العدو الصهيوني، حيث كرست الأحزاب والنقابات جُلّ جهودها لمحاولة إيقاف هرولة السلطة التنفيذية نحو التنازلات والحلول التفاوضية، في وقت بدأت الحكومة فيه، بإتخاذ سياسات تقنين للحريات وتراجع عن خطوات الإنفتاح الديموقرطي، وهز العصا الأمنية. وبمقدار التورط في موضوع “التسوية” والتوغل في مسار المفاوضات، كان يتم الإنتكاس عن وعود الإنفراج السياسي، والتوجه لفرض حالة تراجع على مسيرة العمل العام وحضور الأحزاب.
إنقلاب رسمي على إرهاصات الديمقراطية.
إعادة ممنهجة لصياغة الحكومة لتقنين دور المجتمع بأحزابه ونقاباته، تمت ترجمتها من خلال إجراء تعديل جوهري على قانون الإنتخاب، سمي بقانون “الصوت الواحد”، كان يهدف إلى إضعاف دور وتأثير مجلس النواب الرقابي التشريعي، من خلال إبعاد النخب المجتمعية الواعية والمجربة، من أحزاب ونقابيين ونشطاء سياسيين وطنيين، ولم يغير في الصورة شيئا طرح أكثر من مشروع للإصلاح السياسي، وعدد من المبادرات والأوراق النقاشية الملكية!!
لقد أدى تبني قانون الصوت الواحد إلى تراجع زخم المد الشعبي والحزبي، وأعاد تشكيل النخب السياسية الأردنية على أسس عشائرية وجهوية وفئوية تحت وطنية، فتبدلت بشكل كبير صيغة التمثيل السياسي النيابية إعتبارا من المجلس النيابي الثالث عشر للعام 1997. فتراجعت قوة حضور المجالس المتتابعة، على جميع المستويات.. ورغم طرح وثيقة “الأجندة الوطنية” للعام 2005 وتأكيدها بأن الحزب هو أساس الحياة السياسية، وعلى حقه في تداول السلطة التنفيذية، إلاأن تلك الفترة وما تبعها، قد شهدت شوطا كبيرا من تراجع وتشظي الحياة السياسية، بالرغم من تضاعف عدد الأحزاب المرخصة إلى 49 حزبا، سيما وأن تلك الفترة، قد شهدت تسارعا في سياسات الخصخصة وبيع القطاع العام، وتفاقم مديونية الدولة، وعجوزات الموازنة، وتفشي الفساد المالي والإداري على نطاق واسع، مع تعمق إنصياع الحكومة لإملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين، فإزادت نسب البطالة وإتسعت رقعة الفقر. وشهدت البلاد تنامي دور السياسات الليبرالية الجديدة في الطبقة الحاكمة، وتكرست هيمنتها على الملف الإقتصادي الإجتماعي بشكل شبه كامل، فيما تراجع دور تشكيلات القوى المحافظة والبيروقراطية والتي كانت تشكل الركيزة الأهم للنظام والعنصر الأكثر حضورا في تشكيل الحكومات.
مع بداية احداث “الربيع العربي” تم إعلان مخرجات لجنة الحوار الوطني وما حملت من مضامين إصلاحية سياسية، والتي جرى على إثرها إستحداث “القائمة الوطنية” في العام 2012، بإعتبارها رافعة للعمل الحزبي؛ بقصد تعزيز النهج الديمقراطي، وتوفير الفرصة للوصول إلى تشكيل حكومات برلمانية، ولكن أظهرت نتائج إنتخابات 2013، إستنكاف لافت للناخب وضعف المشاركة الشعبية بشكل كبير، ولم يتغير الوضع عن قانون الصوت الواحد سيئ الذكر.. لدرجة أن عددا من الأحزاب “الوسطية” المحافظة، ذات الحضور الكبير، يأست من الوصول إلى السلطة عبر النشاط الحزبي، وحلت نفسها، أو أعلنت عن نيتها بالحل، “لعدم موائمة القوانين الناظمة، وتردي حالة البيئة الحاضنة” حسب بياناتها، كما شهد أكبر حزب إسلامي حالة من الإنقسام والتشظي، كان من نتيجتها تراجع دوره وتأثيره في الحياة السياسية.
إشكالية النشاط السياسي والعمل الحزبي، تتبدى من واقع مأزوم، لمملكة لديها برلمان منتخب من الشعب وفقا لقانون يقدم الفرز المناطقي الجهوي على السياسي البرامجي، ولديها أحزاب مرخصة تمارس عملها بشكل علني، وتحظى بوجود عدد وافر من مؤسسات المجتمع المدني، وبالمقابل يتم تعيين رئيس الوزراء ورئيس المجلس القضائي ورئيس المحكمة الدستورية وقيادات جميع المؤسسات الأمنية، من رأس النظام، دون وجود أي تنسيب من مجلس الوزراء كما ينص الدستور، وبغياب كامل لدور مجلس النواب.. حالة ملتبسة بين الملكية الدستورية والحكم الشمولي، عاجزة عن بلورة حياة حزبية صحية متنامية، مما احدث نوعا من الإرتباك أمام الأحزاب السياسية، جعلها غير قادرة على إدارة معاركها وتحديد دورها، بشكل فاعل وذي أثر محسوس.
واقع الحضور الحزبي في الأردن.
يبلغ عدد الأحزاب الأردنية حوالي خمسين حزبا مرخصا، مختلفة التوجهات والمشارب، مجموع هذه الأحزاب استطاعت استقطاب حوالي 35 ألف مواطن أردني (حسب أرقام وزارة التنمية السياسية للعام الماضي)، وهي نسبة تشكل أقل من نصف بالمائة من عدد السكان. وقد أظهر استطلاع للرأي أن 89 بالمئة من الشباب الأردني لم يلتحق بالأحزاب السياسية في أي يوم، فيما اظهر استطلاع رأي آخر بان ثقة الشعب الأردني بالأحزاب متدنية جدا..
لماذا الأحزاب السياسية في الأردن ضعيفة؟ ما هي أسباب عزوف الناس عن الدخول فيها على الرغم من مرور ثلاثة عقود من تاريخ السماح لها بالعمل الحزبي؟
** هل هو غياب الإرادة السياسية عند النظام، رغم تصريح النظام مرارا بأنه لا مجال لتقدم الحياة السياسية إلا من خلال بوابة الأحزاب، وإن جميع الكيانات التي يتم صناعتها وتوظيفها وإعادة تدويرها بديلا عن الأحزاب لم تتمكن من ملء الفراغ السياسي الإجتماعي ؟
** لقد استطاعت الدولة من خلال تفصيل قوانين الانتخاب البرلمانية، من تحويل العشيرة الأردنية من كيان اجتماعي، إلى كيان يمارس العمل السياسي الموسمي من خلال الإنتخابات
النيابية التي حولت النواب من نواب رقابة وتشريع إلى نواب خدمات،
ويظهر هذا جليا من خلال وصول حتى معظم النواب الحزبيين إلى البرلمان عن طريق عشائرهم لا أحزابهم،
** ضبابية الرؤية وغياب البرنامج والمرجعية الفكرية عند عدد كبير من الأحزاب، وتركيبتها الطبقية، ونخبويتها وإنشدادها للجانب الإعلامي، وإبتعادها عن القواعد الشعبية، والتواصل مع المواطن في أماكن عمله أو سكنه أو مشاركته إهتماماته، إنعكس هذا على تراكم الخلل في التواصل الجماهيري وتكريس مشاعر شعبية من الإحباط وإبتعاد الناس عن العمل الحزبي.
** الملاحقة والتضييق الذي تمارسه الأجهزة الأمنية على كل منتمي العمل الحزبي المعارض، إذ يتم تصوير كل حزبي معارض على انه خصم للدولة لا معارض للحكومة، ويتم ممارسة منظومة من المضايقات الرسمية على العضو الحزبي ومعظم ذويه، تتمثل في الحرمان من الوظائف الرسمية ومضايقات السفر والإستدعاءات المتكررة للتحقيق والتوقيف .. لتشكل بذلك بيئة إجتماعية منفرة وطاردة للعمل الحزبي.
** حالة الفقر وتردي الأوضاع الإجتماعية عند قطاع كبير من المجتمع تبقيه في حالة من الكد والجري الدائم وراء لقمة العيش وتدبر الحياة الصعبة، وأثر ذلك كله في العزوف عن الأحزاب والنشاط السياسي بشكل عام.
** ضعف التمويل المالي وخاصة عند الأحزاب المعارضة ذات الإتجاه الديمقراطي التقدمي، في وقت تفشت فيه ظاهرة المال السياسي، وسيطرة الكمبرادور والمقاولين على المشهد السياسي، في جل محطات الإستحقاق الإنتخابي النيابي أو المجتمعي.
تؤمن الأحزاب الأردنية بأهمية إستقرار الأمن المجتمعي الوطني، وبالثوابت الوطنية المعروفة، وتعمل تحت سقف الدستور وبوحي من نصوصه، وقد ساهمت بجدية في تفعيل مسيرة الديمقراطية الاردنية، وشاركت بكل أطيافها بالإنتخابات البرلمانية رغم تراجع نتائجها بسبب العوائق السياسية والتشريعية. وتؤكد أحزاب اليسار بشكل عام، بأنها تمتلك رؤية متماسكة، ورغم بعض الخلافات البينية، وتفاوت مستوى الفعالية، إلا أنها تطرح في معظمها، برامجها السياسية والإجتماعية المحكمة والموضوعية، وتعمل على مواجهة تحديات الاردن المتعددة في التعليم والصحة والفقر والبطالة والاقتصاد والخدمات، والتنمية السياسية..
يتراجع على أرض الواقع الآن حضور معظم الإحزاب، الأردنية، إلا أنها ما زالت تؤمن بوجود فرصة لدور لها في إنتزاع حقوقها الدستورية، على طريق الشراكة والإصلاح السياسي الإجتماعي، والتغيير نحو الأفضل، في أردن سيد وحر.