استراتيجية مكافحة التطرف في مناهجنا.. خطوات تنفيذية للتطوير
أظهرت الحكومات – ولو شكلياً- اهتماماً بمكافحة التطرف، وتشكر على أنها انتبهت على استحياء، وبعد تغافل شديد على رأي أحد أصحاب الدولة، إلى أهمية التعليم والمناهج، سواء على مستوى تربوي، أو على مستوى مكافحة الفكر المتطرف.
وعلى الرغم من هذا الاهتمام غير المبكر، واصدارها العام 2014 استراتيجية “سرية” لمكافحة التطرف، فإن التطرف في المجتمع يزداد باستمرار، وأن التشوه في مناهج التعليم ازداد فعلاً. فلدينا، إذن، كلام عن محاربة التطرف، وفعل واضح في إذكائه عن طريق التعليم ومناهجه، وعن طريق مؤسسات أخرى لا علاقة لها بحديثي عن التعليم.
والسؤال المحير هو: كيف تدعي الحكومات أنها تحارب التطرف، وهي بنفس الوقت تسمح لحملة الفكر المتطرف باستخدام أدوات الدولة، من مناهج ومدارس ومؤسسات دينية وجامعات ووسائل إعلام رسمية حكومية!؟ هذه ليست دعوة للقضاء على حرية التعبير، فهي عندي مقدسة، لكن كيف يسمح لفكر بعينه باستخدام أدوات الدولة ومنابرها بحرية تامة، بينما لا يسمح لمحاربي الفكر المتطرف بمثل هذه السلوكات؟!
ويهمني في مجال الدعوة لتطوير المناهج أن أذكر ما يأتي:
1 – توجه الدعوة إلى مؤسسات ثقيلة السمع، وناكرة لوجود المشكلة، والا كيف نفسر أن جريدة “الغد”، وعلى مدى يومين (21 و22 حزيران “يونيو” الماضي) تكتب آراء خبراء، وتعلن أنها حاولت الحصول على رأي وزارة التربية، ولم يتسن لها ذلك!! فهل هناك ما يشغل جهاز الوزارة واعلامها ومسؤوليها والمؤلفة قلوبهم معها، عن تقديم رأي في “استراتيجية مجلس الوزراء”، وليس في استراتيجية حسني عايش؟!
2 – إن تزايد التطرف، وانتقاله إلى أعمال ارهابية مباشرة – وليست مجرد نائمة- يحتم على الجميع أن ينتقل من موقف المتفرج أو المشجع الى موقف الفاعل والمتحرك، وليس من المقبول أن يتطابق بعض ما يرد في مناهجنا مع ما يدعو له المتطرفون أو الإرهابيون.
علينا إذن -ولو أن الرسميين لا يستمعون- أن نحاول وضع خطوات عملية، لتطوير تعليمنا ومناهجنا، باتجاه متغيرات فرضت نفسها، ليس بسبب ظروف مؤقتة أو خطيرة، بل لانها متغيرات تقود إلى مستقبل افضل في ظل المبادئ الاساسية: حقوق الانسان، احترام ثقافة الآخر، كرامة المرأة، الوطنية والمواطنة، الحوار والمشاركة، التواصل والتفكير الناقد والتفكير الابداعي.
هذه ليست شعارات بل مهارات مفتاحية، يلتزم بها أي منهج. فالمنهج الانجليزي مثلا، اعتمد مهارات التفكير الناقد، والتواصل والاستقصاء والتركيب والتحليل والتقويم. اما المنهج السنغافوري فالتزم بالمهارات ذات الصلة بالتربية المدنية والوعي العالمي، والمهارات عابرة المواد، والتفكير الناقد.
3 – والمنهج من الناحية العلمية – وانا اعتذر للتحدث علميا لأنه كلام موجود في الكتب العلمية- ليس مجرد معلومات، انه مهارات ومعان وفهم. والمنهج ليس جدول دروس يومي، لأن الطالب يتعلم ما يفوق هذا الجدول، وما هو خارج هذا الجدول! انه يتعلم ما وراء المنهج، لانه يعيش في صف عالمي، لا مجرد صف مدرسته. والمنهج ليس معارف نتعلمها، بل مهارات نحتاجها لتعلّم هذه المعارف، ونجاحنا لا يعتمد على ما يعرفه الطفل، بل على ما يفعل فيما يعرف.
والمنهج ليس اطاراً ثابتاً يدور المتعلم داخله، بل مهارات معرفية وبحثية وتواصلية تساعد المتعلم على استمرار التعلم.
4 – وبما ان المنهج وطني، فإن من البديهي ان يعد من قبل المجتمع، ولعل أحد ابرز عيوب أي نظام تربوي، ان تتحكم فيه فئة ما، مهما كانت منطلقاتها، ومهما كانت غالبيتها، فالمنهج يعده الرياضيون والفنانون والمفكرون والعاملون والمعلمون والطلاب رجالا ونساء، من مختلف الاديان والثقافات والتوجهات. وعلينا ان ندرك ان:
– من حق المجتمع ان يعلم ابناءه ما يريد من تراث وحداثة ومعارف ومهارات واتجاهات.
– ومن حق الطلاب ان يتعلموا ما يريدون وما يحتاجون من معارف ومهارات واتجاهات.
– ومن حق المدرسة ان تسهم في تعليم ابنائها ما تراه مناسبا لهم.
فالمنهج ليس ما يقرره الكبار، بل يقرره الكبار والصغار والمدرسة، والمنهج ليس وطنيا فحسب، انه ادخال الوطن في العالم، وادخال العالمي الى الوطني، انه “فكّر عالميا واعمل محلياً وعالمياً”.
5- ومن المهم ان يذكر ان التغيير يتطلب ثقافة جديدة، ومسؤولين جدد واجراءات جديدة، ومؤلفين جدد، ومشرفين جدد، فمن صنع المشكلة لا يمكن ان يحلّها.
6- ومن المهم ايضا، ان نتفق على سلوكات التطرف، والسلوكات العادية، فالوهابية تعتبر نفسها وسطية، وحتى انصار “داعش” يعتبرونها اسلاما وسطيا، وتراهم يهبّون بشعارات “ليست حربنا”، والداعية فلان وسطي، في الوقت الذي ينشر فيه كراهية وعنفا.
على ضوء هذه المبادئ، فإنني اقترح الخطوات الآتية لتطوير مناهج قادرة أو مهتمة بمحاربة الفكر المتطرف ونقل المجتمع الى المستقبل:
اولا – ان يسير التطوير وفق المنهج الآتي:
1 – لماذا: والجواب نريد شخصية منفتحة قادرة على فهم ما يجري محلياً وعالمياً، نفكر نقدياً وابداعياً، وهذا لا خلاف عليه.
2 – كيف: والجواب نعد كتبا تقدم الرأي، وتسمح بالنقاش ولا تفرض حلولاً، بل تسمح للطلاب بتكوين وجهات نظرهم من خلال تفاعلهم مع المعارف والمهارات التي يتعلمونها، ونريد معلمين قادرين على عرض الاراء دون تحيز.
3 – ماذا: والجواب هو وضع مفاهيم عامة ومبادئ وحوارات في مجالات الثقافة والمعرفة العلمية والمعرفة الدينية والفلسفية والاخلاقية والفنية.
ثانياً: ان تنمي المناهج الذات وتكسبها هوية وطنية، وقومية ودينية وانسانية، وفق القواعد الاتية:
– ان لا تطغى أي هوية على الهوية الوطنية والهوية الإنسانية.
– ان لا تقدم أي هوية ما يتعارض مع الهويات الباقية.
– ان يركز على المشتركات بين الهويات، وهي الايمان واحترام الاخر، والقيم الانسانية والاخلاقية.
ثالثاً: ان يكون اعداد الكتب الجديدة خاضعا للكفاءة، ولمعايير محددة، وهذا لن يتم الا اذا كان التأليف حرا لا تكليفا، بحيث يتقدم من يجد نفسه مؤهلا للتأليف وفق المواصفات، وتتشكل لجنة وطنية تضم كفاءات: ادبية – تربوية – علمية – فنية، باختيار ثلاثة كتب، توصى فيها دون ان تفرض احدها.
رابعاً: اعداد دليل للكتاب المدرسي، يتضمن المواصفات المطلوبة، مثل الانفتاح، محاربة التعصب، التفكير الناقد، حل المشكلات بالطرق السلمية، احترام الاخر وحقوق الانسان والمرأة والمواطنة اضافة الى المواصفات العلمية.
وتقيم الكتب وفق هذه المواصفات.
خامساً: وتلتزم الوزارة ومعلموها بأن يكون الهدف أو النتاج العام والخاص لهذه الكتب:
– معارف علمية تقدم معاني وافكار ومبادئ قابلة للتنفيذ، فاذا تحدثت عن جهاز فيجب ان يعرف الطالب تطبيقات هذا الجهاز، وان تحدثت عن قصيدة، فيجب ان يعرف الطالب كيف يستخدمها في حياته، واذا تحدثت عن حدث ما، فيجب ان يعرف الطالب لماذا درس عن هذا الحدث.
– ذاتا مفكرة، ناقدة، شاكّة، باحثة، محللّة، قادرة على التمييز بين الحقائق والاراء، وبين الاسباب والنتائج، وبين الذات والموضوع.
سادساً: تقيّم المناهج والكتب دورياً، ويعمل مؤلفوها على تطويرها، على ضوء ملاحظات الطلاب والمعلمين، ويقرر المعلمون وحدهم مع طلابهم مجالات التحسين المطلوبة.