مقالات

أيار، هزيمة النازية ونكبة فلسطين وانتصار المقاومة

توزعت على امتداد شهر أيار، شهر النور والضياء والدفء البابلي، ثلاث لحظات تحولية في تاريخنا المعاصر، ليس الشيئ الوحيد الذي يربطها وقوعها متوزعة على ثلاثة أثلاث الشهر، بل ما حملته من أحداثٍ في سياقٍ فيه درجة كبيرة من الترابط.


في الثلث الأول، وتحديداً يوم التاسع من أيار 1945 كانت هزيمة النازية في ألمانيا، وقبلها بأسبوعين، في الخامس والعشرين من نيسان، كان إعلان انتصار المقاومة الإيطالية «البارتيسانا» على الفاشية، وكلا الانتصارين وسما النهاية الفعلية للحرب العالمية الثانية، وإذا كان من دور يُعد هو الحاسم في تحقيق هذا النصر الاستراتيجيي فيعود للجيش الأحمر، السوفييتي، الذي دخل برلين يوم السابع من أيار 1945 بعد سلسلة هزائم ألحقها بالجيوش النازية، دشنها قبل هذا التاريخ بسنتين، انتصار الجيش الأحمر في معركة ستالينغراد (فولغاغراد) في الثاني من شباط 1943.
بعد هذا الانتصار العظيم، الذي تَحَمَلَ الإتحاد السوفياتي الجزء الأكبر من أعباءه الحربية والبشرية، بحصيلة تجاوزت 50% من ضحايا الحرب العالمية الثانية، جاءت مرحلة جديدة في صياغة العلاقات الدولية، وتحديداً، بين من عُرِفوا ب»الحلفاء» الذين انتصروا في الحرب، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قبل ذلك بعشرة أشهر قد رَسَمَتْ هيمنتها وقراراها على المعسكر الرأسمالي سياسياً واقتصادياً في معاهدة بريتون وودز في شهر تموز 1944، بعد أن أصبحت مآلات الحرب العالمية محسومة بهزيمة دول «المحور» التي تضم ألمانيا وإيطاليا وحلفائهما، وتكشفت في ضوء تطورات السنة الأخيرة قبل نهاية الحرب العالمية الثانية مقدمات حقبة الحرب الباردة.
في خضم هذا الصراع الكوني بين الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي الناشئ من جهة، والمعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى حول ملفات ومناطق جغرافية متعددة، تم تمرير قرار تقسيم فلسطين في التاسع والعشرين من تشرين الثاني عام 1947، وللأسف كانت خطيئة كبرى ارتكبها الاتحاد السوفياتي في حينه، بتصويت مندوبه لصالح قرار تقسيم فلسطين، المعروف بالقرار 181، الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة. هذا القرار الذي منح بغير وجه حق، غطاءً دولياً لقيام دولة الكيان الصهيوني «إسرائيل» فوق أرض فلسطين التاريخية، والذي استخدمته الحركة الصهيونية مدعومة من الاستعمار البريطاني والولايات المتحدة الأمريكية ذريعةً لِشَنِ عصاباتها المدربة والمجهزة حرباً سيطرت من خلالها على 78% من أرض فلسطين التاريخية عشية الخامس عشر من أيار 1948. يومها استُكمِلَت جريمة تشريد أكثر من ثلاثة أرباع الشعب الفلسطيني، ودمرت أكثر من خمسماية مدينة وبلدة وقرية فلسطينية، في أكبر عملية تطهير عرقي مدروس ومنظم عرفها القرن العشرين. ومنذ ذلك التاريخ شكلت النكبة الفلسطينية وتبعاتها، العنوان الأبرز للصراع مع المشروع الاستعماري الصهيوني الإمبريالي، الذي لم يكن يستهدف فلسطين فقط، بل كان ولا يزال يستهدف الوطن والأمة العربية ومقدراتها من المحيط إلى الخليج.
رد المقاومة الأول والأساس جسده موقف الرفض الفلسطيني والعربي الحاسم لقرار التقسيم. هذا الرفض، شكل أرضية انطلاق المقاومة الفلسطينية والعربية لرد الظلم والقهر، وتحرير الأرض، وتحقيق العودة، مهما طال الزمن، ومهما اختل ميزان القوى لصالح العدو لبعض الوقت من التاريخ.
محطاتٌ عديدة مرت منذ النكبة، فيها الهزائم وفيها الانتصارات، فيها التقدم وفيها التراجع، لكن هناك خمسَ محطاتٍ نوعية تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن النصر والتحرير والعودة، ليست مجرد تمنيات وآمال وشعارات، بل أهدافٌ واقعية ممكنة التحقيق، أثبتتها معركة الكرامة في آذار 1968 (غور الأردن)، وحرب أكتوبر 1973 (الجولان وسيناء)، وانتفاضة الحجارة في كانون الأول 1987 (فلسطين المحتلة)، وانتصار المقاومة في أيار 2000 (جنوب لبنان)، وصمود وانتصار تموز 2006 (لبنان)، لكن، من بين هذه المحطات هناك خصوصية تُمَيز انتصار 25 أيار 2000 وتعطيه أبعاداً استراتيجية، إذ شكلَ هذا الانتصار الحصيلة التراكمية النوعية الأبرز في مسيرة المقاومة العربية للمشروع الصهيوني، ما يستحق التوقف عنده لأهميته التقريرية في تحديد مآلات الصراع المحتدم وآفاقه لاحقاً. فحتى أيار 2000، ورغم حالة الاشتباك المستمر مع العدو الصهيوني، كانت الموازين، بالمعايير النسبية، تميل لصالح دولة الكيان «إسرائيل». لكن، مع انتصار 25 أيار 2000، تكون حصيلة 18 عاماً من المقاومة المستمرة التي انطلقت فور احتلال مدينة بيروت في السادس عشر من أيلول 1982 بتأسيس جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية – جمول، وتنفيذها أول عملياتها ضد قوات الاحتلال الصهيوني في منطقة الصنائع في قلب بيروت في 17 أيلول 1982، وتصاعدها لاحقاً بتاسيس حزب الله ومقاومته البطلة، قد توجت ولأول مرة في تاريخ الصراع العربي مع المشروع الصهيوني بإجبار جيش الاحتلال على الإنسحاب من أرض عربية احتلها، بفعل ضربات المقاومة لقواته وعملاءه، رُغم وقوع المنطقة التي كان يسيطر عليها جيش الاحتلال «الاسرائيلي» في نطاق الجغرافيا التي أطلقت عليها الحركة الصهيونية «دولة إسرائيل الكبرى» الموعودة والمزعومة، بين النيل والفرات.
هذا التحول، شكل المحطة التاريخية التي لَحَظَتْ، باعتقادنا، بداية ملموسة لنكوص وانحدار مشروع دولة الاحتلال، وعجزها عن صد المقاومة العربية، اللبنانية في هذه الحالة، واضطرار جيشها للانسحاب الذليل إلى عمق الأرض الفلسطينية المحتلة، وما يؤكد هذا التحول الاستراتيجي لصالح المقاومة في مواجهة الاحتلال الصهيوني وماكينته العسكرية، تُبَينُه المعارك اللاحقة، وأبرزها عدوان تموز 2006 على لبنان، الذي تحول خلال 33 يوماً فقط، من وهم القضاء على المقاومة إلى صمودها انتصارها.
ما بعد هذا الانتصار جرت مياه كثيرة، أكدت قوة ردع المقاومة اللبنانية وتطور قدراتها العسكرية والأمنية واللوجستية، ما أربك المنظومة الأمنية والعسكرية للكيان الصهيوني، واضطرها لمراجعات كبرى في خططها العسكرية والأمنية الاستراتيجية، وبشكل رئيسي بعد دلالات انخراط مقاومة حزب الله في معارك محور المقاومة في سوريا، وتنظيف منطقة جرود القلمون السوري -اللبناني ومحيطها، وتطور قوات حزب الله إلى جيش مقاومة مكتمل الأركان والخبرات، وتحوله إلى هاجس وجودي يقلق الاحتلال الصهيوني.
لم يعد أيار شهراً نستعيد فيه ذكرى ودروس النكبة فقط، بل تحول أيضاً، إلى شهر نحيي فيه انتصار مقاومتنا العربية ومُنبئٌ بالتحرير القادم.

بواسطة
د.عصام الخواجا نائب الأمين العام لحزب الوحدة الشعبية
اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى