مقالات

أوهام أنقرة وتهديداتها.. من موسكو إلى «انتخابات الموت» بقلم: محمد نور الدين

لا تدري سلطة «حزب العدالة والتنمية» من أين تأتيها الضربات العسكرية والسياسية.
فبعد الجنازات التي تتوالى بسبب الحرب على الأكراد، والتي أرادوها دون نجاح «حرباً نظيفة»، فإذا بها تعمم الفوضى في البلاد والدم في الشوارع، ها هم أكراد سوريا يعلنون تل أبيض جزءاً من الإدارة الذاتية رغم أنها منطقة مختلطة وليست كردية صافية. وها هم الأكراد أنفسهم يتلقون الدعم العسكري من واشنطن، ومن غير واشنطن، رغم تحذيرات أنقرة.

ولكن كل هذا في كفة ولقاء الرئيس السوري بشار الأسد والروسي فلاديمير بوتين في كفة أخرى. وكل هذا عشية انتخابات قد تؤكد نتائج الانتخابات الماضية، ليزداد طوق الهزائم حول «حزب العدالة والتنمية» برأسه الأول، رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان ورأسه الثاني رئيس الحزب والحكومة أحمد داود أوغلو، أو يعود منفرداً إلى السلطة من دون أن يعني ذلك انه قادر على حكم تركيا.

وكما فوجئ أردوغان – داود اوغلو بالنزول الروسي العسكري إلى الساحة السورية فارتبكا وتخبّطا واستعجلا خطة كاريكاتورية لإزاحة الأسد لا تركب على قوس قزح، إذا بالردّ يأتيهم مشتركاً وبأعلى صوت (وصورة) وقوة ومن عرين الأسد الروسي لتدخل الحسابات التركية في نفق الرهانات الخاطئة المستمرة منذ بداية الحرب على سوريا في مطلع العام 2011.
لقد طرحت تركيا مع تسع دول غربية أخرى خطة تقضي بأن يبقى الأسد في الرئاسة لمدة ستة أشهر، على أن يكون خلال هذه الفترة القصيرة معدوم الصلاحيات، لا الجيش تحت أمرته ولا الاستخبارات ولا أي شيء. ومن بعدها يخرج من السلطة نهائياً بحكومة من المعارضة وآخرين من النظام الحالي، لكن من دون الأسد. خطة تتوهّم أن الأسد يطلب النجدة و «السترة» قبل أن تداهم قوات الانكشارية مقرّه في المهاجرين.

خرجت الخطة هذه للمرة الأولى من فم مسؤول تركي لم يذكر اسمه، ما يعني أن الفكرة تركية في الأساس. وهي إن عكست شيئاً فإنها تختصر كل الخيبات التركية التي وصلت لمرحلة أنها تطرح مثل هذا التصور، الذي أقل ما يقال فيه إنه صادر عن عقل غير سويّ متخبّط، لا يريد نجاة للأسد بقدر ما يستعطي نجاة للجالسين على الكرسي في أنقرة.

لقد أشاعت وسائل الإعلام التركية، الموالية لـ «حزب العدالة والتنمية»، أن بوتين يدرس الاقتراح، وهو سيسأل عن الضمانات لحماية مستقبل الأسد الشخصي، وما إذا كان الأخير سيذهب إلى موسكو أم غيرها للجوء، وما إلى هنالك من دعايات.

كانت أنقرة في وادٍ وموسكو ودمشق في وادٍ آخر. لم يبلغ العقل السياسي التركي من قبل، هذا الحد من القصور والعقم الذي يمر به اليوم. بعد مفاجأة النزول الروسي العسكري إلى الساحة السورية. ها هم الأتراك يصعقون بلقاء الأسد – بوتين. لم يجد صحافيو «القصر الأبيض» السلجوقي في أنقرة شيئاً يتسلّون به سوى أن الأسد لم يجرؤ على أن يعبر المجال الجوي التركي في طريقه إلى روسيا. وهل يُعقَل مجرد أن يفكر الأسد بذلك؟ إذا نحيّنا جانباً هذه «التسالي» فلن يبقى للسلطان ما يفعله سوى أن يضرب كفاً بكف، منتظراً النجدة من دول النفط والمال بعد أن حوّل جيشه إلى مؤسسة «غب الطلب»، بخدمة قوى لم يتوقف يوماً عن انتقادها لتكديس حكامها المال من دون نصرة المسلمين في العالم. لم يتأخر التوضيح القطري بأن ليس لقطر أي أجندة في سوريا.

ذهبت السكرة وجاءت الفكرة، وليس أمام تركيا سوى أن تنتظر انتخابات الأحد في الأسبوع المقبل، لعل شيئاً يتغير في المشهد السياسي وبالتالي السياسة الخارجية. لكن أنقرة منزعجة للغاية من «التعويم» الاستثنائي الروسي للرئيس السوري. ومصدر الانزعاج أن الوضع التركي الداخلي لا يسمح للسلطة الحاكمة الكثير من الخيارات الحاسمة قبل أن تجري الانتخابات.

ومصدر الانزعاج التركي أن أنقرة حدّدت هدفين- عدوّين لها في سوريا: الأسد و «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي بزعامة صالح مسلم الذي تسيطر قواته من الحماية الكردية على طول 600 كيلومتر من الحدود السورية مع تركيا. بالنسبة للأسد فإن الهدف التركي بات من الماضي، رغم كل محاولات إحياء فكرة سوريا من دون الأسد. أما بالنسبة للأكراد، فإن حضورهم يتقدم خصوصاً بعد معارك كوباني وتل أبيض، وبعد أن تسلموا أسلحة إضافية من الأميركيين تحديداً، وهو ما يغيظ أنقرة أكثر من أي شيء آخر لتهدد بأن أي قطعة سلاح تتسرب إلى تركيا من هذه المساعدات ستدفع أنقرة إلى ضرب الأكراد في الداخل السوري. وأمس تحدث أردوغان قائلاً إن الأسد و «داعش» وأكراد سوريا و «حزب العمال الكردستاني» كلهم إرهابيون.

وما يزيد عصبية أنقرة وتوترها أن الضغوط تتزايد على الرئيس باراك أوباما لمنع القيام بردة فعل ارتجالية ضد الدعم الروسي المباشر للأسد. ومن هذا كلام وزير الخارجية الأسبق هنري كيسينجر من أن على الولايات المتحدة العمل على إنهاء «داعش» وليس إنهاء الأسد.

تتدافع التطورات التي تعني تركيا في الداخل التركي وفي الخارج. وإذا كان من سبب مركزي لكثير من المشكلات التي تعاني منها سلطة «حزب العدالة والتنمية» في تركيا فهو الإصرار على التّمسك بالنهج الذي رفعته في بداية أحداث «الربيع العربي»، وهو الاهتمام بالمنطقة، انطلاقاً من نزعة عثمانية صرفة تعتبر سوريا شأناً داخلياً تركياً، وتنتهي إلى الصلاة في الجامع الأموي. ومع أن هذا النهج سقط في سوريا وفي مصر، فإن أردوغان تحديداً يعمل على أن يبقي بعض الرمق في هذا النهج حياً، ولو على الصعيد الداخلي، وهو الاستئثار بالسلطة تحديداً بشخصه، وليس فقط عبر حزبه، وهو الذي دفع به إلى إبطال نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة في السابع من حزيران الماضي، عندما أخفق «حزب العدالة والتنمية» في الاحتفاظ منفرداً بالسلطة، والدعوة إلى انتخابات نيابية مبكرة الأحد في الأول من تشرين الثاني المقبل، أي بعد أسبوع من الآن.

الهدف المركزي من الانتخابات المبكرة هو أن يفوز «حزب العدالة والتنمية» بالنصف زائداً واحداً ليتمكن من الاستمرار في السلطة منفرداً ولاية جديدة لأربع سنوات. وبمعزل عن الاحتمالات المفتوحة على كل الفرص للجميع فإن ما يلفت في الحملة الانتخابية لـ «حزب العدالة والتنمية» هو هذا التهديد العلني بالقتل الذي يوجهه قادة الحزب إلى الكتلة الكردية تحديداً. ولم يكتف الحزب بحربه العسكرية على الأكراد منذ منتصف تموز الماضي، وأدت إلى إراقة الكثير من الدم، بل إن تفجيرين كبيرين في سوروتش وأنقرة استهدفا تحديداً الجمهور الكردي واليساري المتعاطف مع القضية الكردية.

يعزف رئيس الحكومة داود أوغلو على الوتر الأمني، عندما قال إنه «عندما لم يعد حزب العدالة والتنمية وحده في السلطة بعد الانتخابات الماضية بدأ الإرهاب». وهو يريد أن يقول للناخبين إن استمرار عدم التصويت له يعني أن القتل والحرب ضد الأكراد سيستمر إلى ما لا نهاية. لكن داود اوغلو كان فجاً للغاية، عندما خاطب ومن مدينة فان بالذات في جنوب شرق تركيا الجمهور الكردي قائلاً إنه إذا سقط «العدالة والتنمية» في انتخابات الأول من تشرين الثاني فإن سيارات «طوروس» البيضاء ستعود للتجوال في المنطقة.

سيارات «طوروس» لم تعد موجودة. كانت النسخة التركية من سيارة «رينو 12» الفرنسية، بالتعاون مع شركة محلية تركية. بدأ إنتاجها في العام 1989 ومعظمها كان باللون الأبيض. وللمفارقة ومن دون معرفة السبب، ربما لاتفاق مع المؤسسة العسكرية، باتت هذه السيارة مفضّلة لدى النخب العسكرية من ضباط ومدراء أمن وقائمقامين، ومع أنها كانت تحمل لوحة مدنية عادية فإنها كانت رمزاً للنخب الأمنية والإدارية. كانت «طوروس» تمتاز بقدرتها على السير في الأراضي الوعرة أيضاً لذا كان يُطلَق عليها في تركيا حينها اسم «المعزاة» التي تستطيع العربشة على الصخور وفي المنحنيات.

لكن «طوروس» هذه كانت بمثابة سيارات الموت للمعارضين للدولة في نهاية الثمانينيات والتسعينيات. كانت الاستخبارات التركية تتجوّل بهذه السيارات في المناطق الكردية، وتُمسك المعارضين وتصعدهم إلى السيارة ليلاقوا مصيراً مجهولاً عُرف ولا يزال حتى الآن يُعرَف باسم «الجرائم مجهولة الفاعل». «طوروس البيضاء» هي رمز للموت الأسود بحق الأكراد.

اختفت هذه السيارة لاحقاً من السوق وتوقف إنتاجها. لكن رئيس الحكومة أعلن من «فان» أنه إذا خسر الانتخابات فإن طوروس البيضاء ستعود من جديد. نعم يبشر رئيس الحكومة والحزب الأكبر في تركيا مواطنيه من الأكراد، وغير الأكراد، بالموت في ما لو خسر الانتخابات. يبشر تركيا بالعودة إلى مرحلة التسعينيات، مرحلة التوتر والقتل والفوضى والجنازات. لذا كان أردوغان يقول عشية الانتخابات الأخيرة «أعطوني 400 نائب لأعطيكم الاستقرار». ولكن إذ لم يعطه الناخبون حتى النصف زائداً واحداً فقد فتح حزب السلطة آلة الموت والحروب ضد الأكراد تحديداً عبر الغارات والاعتقالات وعبر التفجيرات. وها هو رئيس الحكومة يهددهم الآن بسيارات الموت – «طوروس البيضاء». وقد تساءل زعيم «حزب الحركة القومية» دولت باهتشلي ما إذا كان كلام داود اوغلو عن «طوروس» هو إشارة إلى وجود تنظيم سري بيد الحكومة سيُستخدم لاحقاً ضد المعارضين!

وتشكل الوثائق التي نشرتها الصحافة التركية خلال الأسبوع الماضي حول العلاقة البنيوية للحكومة و «حزب العدالة والتنمية» بتنظيم «داعش» مرجعاً لا غنى عنه لأي متابع لتاريخ الحركات الإسلامية في تركيا والمنطقة. ومع ذلك يخرج أردوغان ويقول إن «داعش» والنظام السوري والأكراد كلهم إرهابيون. ويخرج داود أوغلو ليقول إن تفجير أنقرة، بحرفية تعبيره هو، «كوكتيل» من تنفيذ وتحريض خمس جهات في الوقت نفسه: «داعش» و»حزب العمال الكردستاني» و»قوات حماية الشعب» الكردية و»جبهة التحرير الشعبي الثوري» اليسارية والمخابرات السورية!

ولا يجد أردوغان المغتاظ من مقاطعة المعارضة لزيارته في قصره الجديد سوى أن يصفهم بالخواريف، قائلاً «غدا سوف تأتون إلى القصر مثل قطعان الخواريف»، ليرد عليه دولت باهتشلي مساء أمس الأول «إذا كان لا بد من الذهاب إلى القصر الأبيض فسندخله مثل الذئب الأغبر (شعار الحزب والقوميين الأتراك) ونقوم بما يلزم أن نقوم به».

تركيا في المأزق الكبير من موسكو إلى دمشق ومن تل أبيض إلى أنقرة. فهل تخرج الانتخابات المقبلة تركيا من هذا المأزق أم تعمّقه؟ هذا ما سنعالجه الأسبوع المقبل.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى