أوسلو مات إسرائيليًا وإعادة إنتاجه لن تجدي/ هاني المصري
بعد أيام تحل الذكرى الثامنة والعشرون لتوقيع اتفاق أوسلو، ولا يزال هذا الاتفاق يحكم القيادة المتنفذة في منظمة التحرير والسلطة رغم الكوارث التي انتهى إليها، ويمكن تلخيصها بحكم ذاتي كحل نهائي تحت السيادة الإسرائيلية، وأن مدة الاتفاق قد انتهت، إذ تضمن الاتفاق نصًا على أن المفاوضات النهائية مفترض أن تتوصل إلى اتفاق نهائي حول القضايا الأساسية في موعد أقصاه أيار/ مايو 1999؛ بينما خرقت الحكومات الإسرائيلية الاتفاق منذ البداية، ثم قتلته بعد ذلك عندما أعادت احتلال الأراضي الخاضعة للسلطة وحاصرت ياسر عرفات وصولًا إلى اغتياله، ولم تعد تطبق الالتزامات الإسرائيلية، ولم تقم بإلغائه لضمان التزام السلطة بتطبيق التزاماتها، وعدم تحمل المسؤولية أمام العالم عن الجريمة.
وبعد اغتيال إسحاق رابين صاحب عبارة “لا مواعيد مقدسة”، تولى رؤساء الحكومات الإسرائيلية الواحد تلو الآخر عملية القضاء على أوسلو إسرائيليًا والحفاظ عليه فلسطينيًا، حتى أيهود باراك.
لقد زار الرئيس الراحل ياسر عرفات عشية انتهاء مدة الاتفاق عشرات الدول تمهيدًا لانتهاء المرحلة الانتقالية، واستعدادًا لبسط سيادة دولة فلسطين من دون مفاوضات، ولكنه انتهى بعد هذه الجولة إلى إعطاء فرصة جديدة لعملية السلام، وقام المجلس المركزي بتمديد المرحلة الانتقالية.
وفي هذا السياق، عُقِدت قمة كامب ديفيد بإصرار من أيهود باراك تحت زعم التوصل إلى اتفاق سلام، وبهدف أُعلِن عنه بعد ذلك، وهو إزالة القناع عن وجه ياسر عرفات وفق زعمه. وفشلت القمة، لأن ياسر عرفات رفض التنازل عن السيادة على الأقصى وغيرها من القضايا، وحمّل الرئيس الأميركي بيل كلينتون عرفات المسؤولية لأنه قدم أقل من باراك رغم تعهده بعدم الإقدام على ذلك.
ونظم أرئيل شارون بدعم من الحكومة الإسرائيلية زيارة إلى الأقصى، ورد عليه الشعب الفلسطيني بقيادة ياسر عرفات بانتفاضة عارمة، ثم نفذت قوات الاحتلال في العام 2002 عملية “السور الواقي” في الضفة الغربية، بعد يوم واحد من إقرار القمة العربية في بيروت مبادرة السلام العربية، بهدف معاقبة ياسر عرفات والفلسطينيين، ودفعهم لقبول ما تعرضه إسرائيل عليهم، أو التعايش مع ما تفرضه على الأرض من وقائع وحقائق احتلالية وعنصرية تجعل الحل الإسرائيلي هو الحل الوحيد الممكن والمطروح عمليًا.
وبدلًا من الخروج من دائرة الأوهام والحسابات الخاطئة والخطيرة الناجمة عن استمرار الرهان على ما سمي “عملية السلام” وأوسلو، بعد حصاد الفشل والخيبات من المفاوضات، تمت الموافقة على خارطة الطريق الدولية في العام 2003، التي مثّلت هبوطًا جديدًا بسقف الموقف الفلسطيني، لا سيما بعدما ظهر أن مرجعيتها الأساسية هي الأمن الإسرائيلي، وليست الحقوق الوطنية الفلسطينية، حتى المقرة في القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية والاتفاقات السابقة.
كانت خارطة الطريق الجسر الذي تم العبور منه لتطبيق ما جاء في خطاب الرئيس جورج بوش الابن في حزيران 2002، حيث طالب بتغيير القيادة الفلسطينية، وإيجاد قيادة جديدة مختلفة تحارب “الإرهاب”.
إن استحداث منصب رئيس الحكومة في السلطة وتوزيع الصلاحيات بينه وبين الرئيس عرفات استجابة لضغط خارجي في الوقت الذي كان فيه محاصرًا؛ كان بمنزلة الحق الذي أريد به باطل، وعندما تيقن عرفات من ذلك وأنه سيبقى تحت الحصار رغم مرونته المفرطة في الوقت الذي تتوفر الشروط يومًا بعد آخر وتتواصل الجهود لبلورة قيادة جديدة، انقلب على هذه الخطة، ما أدى إلى تداعيات منها استقالة محمود عباس، ومن ثم تلا ذلك اغتيال ياسر عرفات بعد فشل عملية تحييده وإخراجه من المعادلة.
وبدلًا من اعتبار الاغتيال رصاصة الرحمة على اتفاق أوسلو وإيذانًا باعتماد مسار جديد، استؤنفت المفاوضات ضمن سقف منخفض جديد أقل من اتفاق أوسلو وخارطة الطريق، كما يتضح من الاستمرار في تطبيق الالتزامات السياسية والأمنية والاقتصادية الفلسطينية من جانب واحد، بحجة أن هذا يحقق مصلحة فلسطينية، ويحرج إسرائيل، ويضع الولايات المتحدة وأطراف اللجنة الرباعية الدولية أمام مسؤولياتها. وما حدث أنهم لم يحرجوا وبات الموقف الفلسطيني أضعف ومكشوفًا أكثر أمام الشروط والإملاءات الإسرائيلية.
وفشلت المفاوضات مرة أخرى التي دشنها مؤتمر أنابوليس في تشرين الثاني 2007، وعاد نتنياهو إلى سدة الحكومة الإسرائيلية في العام 2009، واعتمد بدعم من أغلبية داخل الكنيست والمجتمع الإسرائيلي خطة “السلام الاقتصادي” وإحياء إقامة “إسرائيل الكبرى”، ورفض طوال أكثر من عشر سنوات استئناف المفاوضات، كما رفض اللقاء مع الرئيس محمود عباس رغم تعدد الوساطات، خصوصًا الروسية والفرنسية.
وهذا ما سار عليه نفتالي بينيت، الذي صرح، مرارًا وتكرارًا، بأن لا مفاوضات ستجريها حكومته مع الفلسطينيين، وستواصل الاستيطان، وترفض الدولة الفلسطينية، في نفس الوقت الذي تواصل سياسة الضم الزاحف للأرض والحقوق والمقدسات إلى أن تحين اللحظة المناسبة للضم القانوني.
وعندما جاء دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تبنى خطة نتنياهو الرامية إلى استكمال خلق أمر واقع احتلالي عنصري يؤدي إلى تصفية القضية الفلسطينية من مختلف جوانبها، وفي المقابل اتخذت القيادة المتنفذة موقفًا وطنيًا ضد صفقة ترامب – نتنياهو، ما أدى إلى قطع المساعدات الأميركية عن السلطة، واتخذ الرئيس محمود عباس قرارًا بالتحلل من الاتفاقات في أيار 2020، وهذا وفر أساسًا لاستئناف لقاءات المصالحة التي انتهت إلى اتفاق على قيادة موحدة للمقاومة الشعبية، وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية واستكمال المجلس الوطني.
وسرعان ما تم التراجع عن قرار التحلل، بعد خمسة أشهر، بزعم أن سلطات الاحتلال أكدت التزامها بأوسلو، رغم أن كل شيء يدل على عكس ذلك، وكان هذا القرار مسمارًا جديدًا في نعش الاتفاق الوطني، ولحقه سيطرة السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية بحل المجلس التشريعي وإجراء التعديلات القانونية، وتبعه تأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى، وعدم التصرف بمستوى التحديات التي فرضتها هبة القدس وسيفها وهبة شعبنا في الداخل والخارج، وما فتحته من آفاق رحبة، وتم تنفيذ جريمة اغتيال نزار بنات، والانتهاكات غير المسبوقة للحقوق والحريات، وأخيرًا اعتماد خطة “بناء الثقة”، الاسم الآخر لخطة “السلام الاقتصادي”، التي شُرعِنت في لقاء الرئيس مع بيني غانتس.
وتعد هذه الخطة مقايضة خاسرة، تقوم على تقوية السلطة، وتأجيل التفاوض على التسوية النهائية حتى أجل غير مسمى، مقابل التغاضي عن استمرار الانقسام والاستيطان ومصادرة مناطق (ج)، التي تشكل أكثر من 61% من مساحة الضفة. أما الحديث عن السماح بالبناء الفلسطيني في هذه المناطق فهو خدعة كبرى، لأن الأمر يتعلق بقرارات سابقة، واستكمال بناء، وبناء محدود في نطاق القرى الفلسطينية نفسها.
يتصوّر صاحب القرار الفلسطيني، أو يوحي بذلك، أن بإمكانه، من خلال هذه التنازلات الجديدة، إعادة إنتاج أوسلو، وفتح الطريق لإحياء العملية السياسية، خصوصًا في مرحلة تولي يائير لابيد رئاسة الحكومة الإسرائيلية، في حين إنه واقعيًا يكرس خطة السلام الاقتصادي الأمني الذي طرحها نتنياهو، ورفضتها القيادة الفلسطينية المتنفذة، التي تقضي على أي إمكانية لإحياء عملية سياسية جادة من دون تغيير جوهري في موازين القوى، فأوسلو مات إسرائيليًا، والحقائق والوقائع تجاوزته، ولا يمكن إحياء العظام وهي رميم، فضلًا عن أن أوسلو كان خطأ فادحًا منذ البداية، وهذا أمر خضنا فيه كثيرًا، ولا فائدة كبيرة من تكرار ذلك.
لا يمكن تفسير ما يحدث من تخفيض للسقف السياسي الفلسطيني بالانتصارات والإنجازات، وهو يذكرنا بـ”الإنجازات” التي كان يحققها المخاتير وروابط القرى والمدن، وما هو إلا نتيجة لتبلور بنية مصالح متكاملة سياسية اقتصادية أمنية ثقافية تسلقت على جدران البيت الفلسطيني بعد 73 سنة على النكبة و54 سنة على هزيمة حزيران و14 سنة على الانقسام، وهو أيضًا نتيجة الشعور بالهزيمة الدائمة والعجز واليأس من وجود بدائل أخرى، في ظل الخوف من خسارة القيادة في السلطة والمنظمة، لا سيما مع فقدان مصادر الشرعية الداخلية، وبقاء الرهان فقط على شرعية الأمن والقوة، ومصادر الدعم والشرعية الخارجية.
لم تجد القيادة المتنفذة المعارضة القوية الفاعلة الكافية القادرة على تغيير المسار، التي تطرح بدائل فعلية وتقدم نماذج وقصص نجاح، إذ أصبح الصراع الداخلي بعد وقوع الانقسام، ما عدا في لحظات قصيرة، يتمحور على السلطة والتمثيل والمصالح والمكاسب والقيادة والقرار، بعد أن قررت حركة حماس، القوة الرئيسية المعارضة، المشاركة في السلطة والمنظمة في إعلان القاهرة في آذار 2005، وهذا من حقها، لكن من دون الاتفاق على المشروع الوطني، ما أشار إلى قبول أو تعايش مع البرنامج المعتمد، وذلك بعد فشل المحاولات لإيجاد قيادة ومنظمة بديلة أو موازية، وما ترتب على ذلك من مشاركة في الانتخابات البلدية والتشريعية، وعدم استكمال بقية بنود إعلان القاهرة، لا سيما تفعيل المنظمة وضم حركتي حماس والجهاد إليها، ومن دون الاتفاق مسبقًا على القواعد والأهداف وأسس العمل المشترك، فالمشاركة في السلطة والمنظمة، خصوصًا في الوضع الفلسطيني الخاص والمعقد، ليست عملية فنية، بل عملية سياسية قانونية اقتصادية ثقافية أمنية.
وما تلا ذلك من أحداث فاقم الموقف أكثر وأكثر، لا سيما عدم الاتفاق على كيفية وأسس الشراكة أو المحاصصة، وكيفية العمل إزاء اتفاق أوسلو والتزاماته، وعدم تمكين “حماس” من الحكم رغم فوزها في الانتخابات التشريعية وتشكيلها الحكومة، وقيامها بعد ذلك بـ”الانقلاب”، وحدوث الانقسام السياسي والجغرافي والمؤسسي المستمر والمتفاقم الذي يشكل خطرًا لا يقل عن النكبة وهزيمة حزيران.
يكمن مفتاح الخروج من المأزق الشامل والنفق المظلم في إعادة الاعتبار للمشروع الوطني حتى يعود الصراع إلى طبيعته، بوصفه صراعًا تحرريًا. أما التنافس الداخلي فيجب أن يركز على الخيارات والبرامج والخطط، وليس على السلطة والتمثيل والمصالح والقرار ومن يحكم.
وهذا يتطلب الشروع في حوار وطني لا يقتصر على القيادة والقوى التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه الآن، وإنما تشارك فيه شخصيات اعتبارية وازنة، وممثلو قوى وحراكات ومجموعات ولجان ومؤسسات وقوائم فاعلة داخل الوطن وخارجه؛ بهدف بلورة رؤية شاملة، وإستراتيجية عمل موحدة، وقيادة واحدة تتحلى بالوعي والإرادة اللازمة. وأول ما يمكن أن تقوم به القيادة الجديدة وضع خطة تفصيلية وعملية للتخلص من أوسلو والتزاماته، إن لم يكن ممكنًا فورًا فبالتدريج، وما يتطلبه ذلك من عزل نفوذ جماعات المصالح، وتشكيل حكومة وحدة وطنية تنهي الانقسام، وتحدد مواعيد ملزمة لإجراء الانتخابات على كل المستويات والقطاعات.
هل هذا سهل؟ لا، طبعًا، بل صعب جدًا، وبحاجة إلى تغيير في الخارطة السياسية الفلسطينية، ولكن لا مفر من مواصلة العمل والكفاح حتى يتحقق، ومن خلال تحقيق إنجازات متواصلة ومتراكمة في مختلف المستويات والمجالات على طريق تحقيقه، فالوحدة على القواسم المشتركة، في ظل التعددية والتنافس الإيجابي، قانون الانتصار للشعوب تحت الاحتلال، كما قال القائد الأسير مروان البرغوثي، وضمن رؤية أن التناقض الأساسي مع الاحتلال، وتغيير السلطة يهدف إلى توفير مقومات صمود ومقاومة فاعلة ضد الاحتلال.