جريمةُ بلفور ما زالت مستمرّةً وبلا محاكمةٍ!!

شكّل وعدُ بلفور حدثًا مفصليًّا أعاد تشكيلَ المنطقة، إذ صدر في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1917 على شكل رسالةٍ تعهّدت فيها بريطانيا بإنشاء “وطنٍ قوميٍّ لليهود” في فلسطين، دون المساسِ بحقوقِ السكّانِ الأصليّين. غيرَ أنّ بريطانيا التزمت بالشقّ الأوّل وأهملت تمامًا الشقَّ الثاني، فاستُخدم الوعدُ كغطاءٍ قانونيٍّ للاستيطان، وهُمِّش الفلسطينيّون، وتعامَلَتْ معهم القوى الاستعماريّة وكأنّهم مجرّدُ جماعاتٍ بلا هويّةٍ ولا تاريخ.
لم تشعر بريطانيا بأيِّ حرجٍ أو تناقضٍ أخلاقيٍّ وهي تضع الأساسَ للمشروع الصهيونيّ، بل نظرت إلى الأمر بوصفه خطوةً إمبراطوريّةً طبيعيّةً تُعبّر عن روحِ الاستعمار وموازينِ القوى في ذلك الزمن.
جاء هذا الموقفُ نتيجةَ رؤيتِها الاستعماريّة وأهدافِها في المنطقة، إلى جانبِ الصورةِ النمطيّة التي رسمها المستشرقون عن الشرقِ باعتباره ضعيفًا، عاطفيًّا، وعاجزًا عن إدارةِ نفسِه، وهو ما سهّل عمليّةَ الاستعمار تحت شعار “نشر الحداثة والمدنيّة”.
أُريد للوعدِ أن يخدم مقولةً زائفةً مفادُها أنّ لليهود “حقًّا تاريخيًّا” في فلسطين، وأنّ الفلسطينيّين شعبٌ غائبٌ أو مجموعاتٌ بدائيّةٌ بلا جذور. كان وعدُ بلفور، في جوهرِه، نصًّا صريحًا للعقلِ الاستعماريّ، يقدّم الشرعيّةَ والخطابَ المبرِّرَ لاقتلاعِ شعبٍ كاملٍ من أرضِه.
ارتبط هذا الوعدُ بالتحوّلِ الذي طرأ على دورِ العلمِ بعد الثورة العلميّة في القرن السابع عشر وظهورِ الثورة الصناعيّة. فقد انتقل العلمُ من أداةٍ لفهمِ العالمِ وقوانينه، إلى وسيلةٍ في خدمةِ المشروعِ الاستعماريّ، مستندًا إلى الاكتشافاتِ الجغرافيّةِ والأنثروبولوجيا لتبريرِ تفوّقِ “الرجل الأبيض” وإعادةِ كتابةِ ذاكرةِ الشعوب.
بهذا الشكل، تكاملتِ المعرفةُ مع القوّةِ الاستعماريّة: فالعلمُ يُنتج تصوّراتٍ تُصنّف الشعوبَ على أنّها أدنى أو ناقصة، لتُستباح أراضيها وتُنهب ثرواتُها وتُطوَّر الأسلحةُ لقمعِها. ومع صعودِ الحركةِ الصهيونيّة، وجد هذا المشروعُ نفسَه في مواجهةِ المشروعِ العربيّ، مستندًا إلى كلِّ أدواتِ المعرفةِ الاستعماريّة والهيمنة.
ما نعيشه اليوم من تطبيعٍ وانحيازٍ غربيٍّ لصالح الكيانِ الصهيونيّ، رغم حربِ الإبادةِ والتجويعِ وازدواجيّةِ المعايير، يشير بوضوحٍ إلى أنّ وعدَ بلفور لم ينتهِ، بل يستمرّ في تجلّياتِه السياسيّة والعسكريّة والدبلوماسيّة، مُنكِرًا الحقوقَ الفلسطينيّة منذ 107 أعوامٍ وحتّى اليوم.
غيرَ أنّ إرادةَ الشعبِ الفلسطينيّ لم تنكسر. فدماءُ الشهداءِ التي سالت على أرضِ غزّةَ والضفّة، أيقظت ضميرًا عالميًّا كان مخدوعًا بالروايةِ الصهيونيّة، وكشفت حقيقةَ الحركةِ الصهيونيّة كحركةٍ استعماريّةٍ وعنصريّةٍ حاولت طويلًا أن تتقمّص دورَ الضحيّة.
ورغم مرورِ قرنٍ ونيفٍ، ما يزال الفلسطينيُّ ثابتًا على حقّه، مستمرًّا في نضاله حتّى تحريرِ الأرض.
ومن هنا تتجلّى أهميّةُ كشفِ البنيةِ العميقةِ لوعدِ بلفور، فهو لم يكن مجرّدَ حدثٍ يقتصر أثرُه على فلسطينَ وحدَها، بل كانت مخاطِرُه تمتدّ إلى مجملِ المنطقةِ العربيّة. لذلك، فإنّ تفكيكَ هذا الوعدِ لا يقتصر على مجرّد رفضِه سياسيًّا أو أخلاقيًّا، بل يتطلّب التصدّي العمليَّ لنتائجِه وما أفرزه من احتلالٍ للأرض، واستيطانٍ، وتطبيعٍ، وهيمنةٍ مستمرّةٍ تُهدِّد الوطنَ العربيَّ بأكملِه. إنّ مواجهةَ هذا الإرثِ الاستعماريّ هي، في جوهرِها، رفضٌ للنظامِ العالميِّ الذي وُلِد من رَحِمِ الاستعمار وما زال يحكمُ علاقاتِ القوّةِ حتّى اليوم.